الهديل

العرش البريطاني..كحارس في لعبة العروش

السلطةُ مرضٌ، حتى ولو كانت رمزية، بروتوكولية. وهي كانت تسيء الى أسرة وندسور الملكية العريقة، أكثر مما كانت تمس تجربة بريطانيا  السياسية والدستورية الأعرق والأرسخ في العالم.

في وداع ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية، التي توفيت على العرش عن 96 عاماً، ما يندر أن يساهم في حفظ النموذج، وما يصعب أن يستخدم للدلالة على تماسك الأسرة، وعلى أهمية دورها التاريخي، على الأقل كحارس لمتاحف الذاكرة البريطانية، التي كانت ولا تزال تفصلها هوة عميقة عن معالم ومحافل الحقيقة البريطانية، المتوارثة والمتراكمة منذ التوقيع على الميثاق الوطني العظيم، الماغنا كارتا، في مطالع القرن الثالث عشر، وصولا الى اليوم التي صارت فيها رائدة الحكم الديموقراطي، التي تتميز بأكبر قدر من الليبرالية وأقل قدر من العنصرية في العالم الغربي برمته.

في وداع الملكة، إستعيدت تلك العلاقة المعقدة بين الأسرة المفككة، الباردة، التي لا تذرف الدموع، ولا تطلق الضحكات، ولا تتحرك إلا مثل الروبوت.. وبين الجمهور الذي لم ينزل إثر إعلان خبر الوفاة، بالملايين الى الساحات والشوارع باكياً أو متجهماً، والذي إستعاد جدله الداخلي القديم حول الحاجة والكلفة الفعلية لحراس الذاكرة، التي تجذرت خارج القصور والقلاع التاريخية، وحول المردود الذي تجلبه الوكالة السياحية الأهم للاقتصاد البريطاني..بغض النظر عن حضور آل وندسور في الوجدان البريطاني، لا سيما في أوساط محبي القصص الخرافية، ومنها قصص العشق والغرام المحرّمة، التي فقدت الكثير من مكانتها منذ مقتل الاميرة ديانا في تسعينات القرن الماضي، ونفور ولديها وليام وهاري من قيود القصر وإلتزاماته.

لم يطرح إلا لماماً السؤال عن سبب تمسك الراحلة بالعرش حتى الرمق الاخير. أحيل الامر الى التزام قديم قطعته على نفسها وعلى شعبها، عندما تولت المنصب بعد سلسلة اضطرابات ووفيات عائلية(تخلي عمها عن العرش، ثم وفاة والدها الذي ورثه)، متعهدة بأن تبقى مدى الحياة. لكن هذا التعهد، أُسيء شرحه، أو تفسيره، بوصفه عقاباً لوريثها الملك الجديد تشارلز، وحرصاً على وحدة العائلة التي هزًتها العواصف العاطفية..ووصلت حتى الى الاحفاد. كانت تؤدي دورها، كأم، وجدّة، تشعر أن غيابها، او على الاقل ابتعادها عن المشهد ولو مؤقتاً يمكن أن يؤدي الى خلل عميق في المملكة المتحدة. وتردد أنها تسامحت مع السخرية المرّة من شخصيتها التي شاعت في العقدين الماضيين، بوصفها تضحية أخيرة في معركتها للحفاظ على صورة الاسرة وبقية أفرادها الضعفاء!

لكن التمسك بالعرش حتى اللحظة الاخيرة كان يعزى أيضاً الى رغبتها في أن تكتسب لقب المرأة القوية( الحديدية) التي تتعالى على الجراح، وتمارس دورها الطبيعي كاملاً، حتى وهي في حداد على زوجها، أو في خلاف مع أحد ابنائها أو أحفادها. ولعل هذا اللقب كان ملاذها الاخير، بعدما تحولت في عقود حراستها للذاكرة، الى شاهدة على تفكك الامبراطورية، تكلف نفسها بالابقاء على خيوط التواصل مع المستعمرات السابقة، وعلى تحويل الكومنولث من متحف، الى منتدى، الى هيئة دولية.

يمكن للملك تشارلز أن يرمم صورة الملكة الهرِمة، إذا ما تواضع وتجاوب مع الوعي البريطاني الخاص، بأنه مدعو الى تفادي السير على خطى والدته، والتفكير في التخلي عن العرش لإبنه وليام، المحبوب من قبل الملكيين البريطانيين، قبل ان يبلغ الثمانين من العمر، ( أي بعد سبع سنوات)..حتى لا تترك تجربة والدته أثراً سيئاً، يقلب المواجع ليس فقط في القصور البريطانية، بل ربما في الكثير من القصور الملكية والأميرية في العالم، التي قارب بعض ساكنيها التسعين من العمر، من دون مؤشر على قرب تخليهم عن الحكم.

لكنها في النهاية مسألة عائلية لا تؤخذ على محمل الجد، لا في المملكة المتحدة ولا في خارجها، حيث تغلب الصورة على الفكرة، بما يوجب مثلاً تأجيل النقاش حول التاريخ الاستعماري وشجونه الى ما بعد الدفن على الأقل، لكي لا يحمل آل وندسور أكثر مما يحتملون.

المصدر:المدن

Exit mobile version