كتبت راغدة درغام..
صعبٌ جداً وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أعقاب التراجع العسكري للقوات الروسية في أوكرانيا وانحسار هيبتها داخل روسيا. صعبٌ عليه الإمساك بزمام المبادرة العسكرية في خاركوف لأن تكلفة تلك المعركة باهظة إذا حققت النجاح لصالح روسيا، في حين باتت واقعياً معركةً لا غنى عن شراستها من أجل تجنّب خسارة روسية كبرى ومفصليّة. لم تعد هذه “عملية عسكرية محدودة”، كما تعمّد فلاديمير بوتين وصف غزوه لأوكرانيا، لأنها الآن باتت “حرباً” واضحة في نظر الشعب الروسي والخبراء العسكريين الروس الذين يطالبون رئيسهم بالإقرار وبالتشخيص الجدّي لما آلت اليه الأمور تجنّباً للمزيد من الأخطاء الاستراتيجية والانهيار المعنوي.
لم يعد في الإمكان إخفاء ما يحدث اليوم وما أدّى الى هذه “المفاجأة” التي صدمت أكثرية الروس وجزءاً كبيراً من العالم وهي أداء الجيش الروسي في الحرب الأوكرانية. الخوف لا يزال قائماً من احتمال استخدام الأسلحة النووية التكتيكية- وهناك مفاعل نووي علمي بالقرب من خاركوف. لا أحد يعرف ماذا يدور اليوم في ذهن فلاديمير بوتين أمام انحسار هيبته وهيبة جيشه لا سيّما أن الحديث العلني داخل روسيا تحوّل نوعيّاً وبدأ الناس بالمساءلة. بل فوجئ كثيرون في روسيا عندما قرّر فلاديمير بوتين مغادرة الكرملين في ظروف دقيقة للمشاركة في قمّة “منظمة شانغهاي” في سمرقند. وراء هذا القرار- المغامرة اجتماع بالغ الأهمية للرئيس الروسي باعتباره في رأيه مصيرياً له ولروسيا وحربها الأوكرانية ومواجهتها للغرب برمته: اللقاء مع الرئيس الصيني شي جينبينغ.
الأسباب بديهية، لكن نتائج اللقاء معقّدة كما هي العلاقة الثنائية في هذه المرحلة. فبناء محور الترويكا الأوتوقراطية التي تضم الصين وروسيا وإيران وتركّز على الشرق الأوسط أمرٌ مهم بالتأكيد. إنما ما يحدث داخل الحزب الشيوعي الحاكم في الصين له الأولوية في هذا المنعطف لا سيّما على مصير ولاية ثالثة للرئيس شي جينبينغ. ثم إن في ذهن الصين مشاريع كبرى في الجمهوريات السوفياتية السابقة قد لا تعجب الرئيس الروسي كما لا يعجبه انحسار حظوظ إبرام الصفقة النووية مع إيران. ففلاديمير بوتين يمر في مرحلة صعبة ومعقدة قد تكون عابرة لكنها تحمل في طياتها خطراً منه وعليه.
التراجع العسكري الروسي في أوكرانيا في الأيام القليلة الماضية ليس حادثة منعزلة في عالم اليوم لأن الانطباع بحد ذاته له تداعيات وعواقب في أكثر من مكان. سوريا مثال واضح حيث لم يعد لروسيا في هذه الحقبة من التاريخ ذلك الاهتمام أو الاكتراث بما زرعته في سوريا عبر السنوات بسبب الأولوية الأوكرانية. وهذا ينعكس على الدور الذي ظنّت موسكو أن في وسعها مجرد إيلائه الى طهران بمعنى إيكال الدور الروسي في سوريا الى “الحرس الثوري” الإيراني. فليس مُستهجناً أن الأوضاع الأمنية داخل سوريا تتدهور وأن الطاقة الإيرانية ليست بمستوى الحدث والتحديات.
تطورات أوكرانيا ألقت ظلالها أيضاً على نفوذ روسيا مع إسرائيل بالذات في إطار العمليات الإسرائيلية ضد المواقع الإيرانية في سوريا. في الأمس القريب، كان هناك نوع من تفاهمات الأمر الواقع بين روسيا وإسرائيل في سوريا. اليوم، تنفّذ إسرائيل استراتيجية جديدة في سوريا قوامها قطع الإمدادات العسكرية الإيرانية ليس فقط الى سوريا وإنما أيضاً الى “حزب الله” في لبنان.
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي سيحتفل بانتماء إيران الى منظمة شانغهاي بدفعٍ من نظيره الروسي، وهو ينوي التوجه الى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع المقبل. قد يبدو رئيسي مرتاحاً لزيارته بالرغم مما سيواجه فيها من حملات شخصية ضده بسبب دوره في قمع المعارضة الإيرانية. فانتماء إيران الى منظمة شانغهاي يزيل عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية صبغة العزلة الدولية.
إنما بالرغم من طموحات النظام في طهران على الصعيدين الأمني والاقتصادي، يبقى انضمام طهران الى المنظمة رمزيّاً لأن فعالية منظمة شانغهاي تبقى محدودة مع أن عضويتها تشمل 40 في المئة من التعداد السكاني العالمي و20 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. ذلك بسبب التنافس الشديد بين أهم أعضائها مثل الصين والهند، كما بسبب عدم اندفاع الدول الأعضاء في المنظمة على المغامرة بعقوبات أميركية ضدها بسبب نشاطات محظورة مع إيران. وما دامت الصفقة النووية بموجب محادثات فيينا مُستبعدة، لن تغامر هذه الدول بعقوبات عليها بسبب طهران.
المصادر المطلِعة على التفكير في طهران أكدت أن الرسالة الأساسية التي يحملها الرئيس الإيراني الى نيويورك هي “أن هذه هي الفرصة الأخيرة للغرب” لأن يوافق على إحياء الاتفاقية النووية مع إيران JCPOA “وإلا، فإن الأمور ستتجه الى الأسوأ”. ما هو الأسوأ؟ تتحفظ هذه المصادر عن الإجابة بدقة، لكنها تذكر الخيارات الإيرانية من “تكثيف البرنامج النووي، الى مواجهات عسكرية، الى الكثير من وجع الرأس للغرب”.
هذا لا يعني أن النظام في طهران في أفضل حالاته. فالمواجهة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA ليست في مصلحة النظام الإيراني، في نهاية المطاف، وهو قد قيّد نفسه في قفص هذه المواجهة. حتى ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، وجد نفسه يقول هذا الأسبوع إن المفاوضات وصلت الى طريق مسدود محمّلاً إيران المسؤولية. وبالتالي، قد يكون القادة الأوروبيون أقل اندفاعاً للدفاع عن إيران وأكثر انتقاداً لها أثناء وجود إبراهيم رئيسي في الأمم المتحدة لهذه الدورة.
الجميع يعي اليوم أن لا مجال للعودة الى التفاوض للاتفاق على الصفقة النووية قبل شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وأن الضغوط الأميركية الداخلية ستتضاعف بسبب ازدياد المعارضة للصفقة كما بسبب حدّة وجزم المعارضة الإسرائيلية لها. المبعوث الأميركي لإيران روبرت مالي يواجه حملة استياء وغضب من أعضاء في الكونغرس، والبعض يطالب بتحييده عن الملف موجِهاً إليه تهمة استرضاء إيران وحجب عناصر الاتفاقية وبنودها عن الكونغرس الأميركي.
مشاركة الرئيس جو بايدن في الجمعية العامة للأمم المتحدة ستكون لافتة بالذات من منطلق الحرب الأوكرانية وما يعتبره إنجازاً لحلف شمال الأطلسي- وليس من منطلق الصفقة النووية مع إيران. لن يهم الرئيس الأميركي إذا شعرت إيران بأنها مُطوَّقة دولياً. ما يهمّه هو أن يكون فلاديمير بوتين مطوّقاً دولياً فعلاً وكليّاً. هذا قد لا يعاني منه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عندما يشارك في الجمعية العامة، ليس فقط لأنه مخضرم سياسياً ويحاول التحدّث بلغة الدبلوماسية وإنما إيضاً لأن الأمم المتحدة هي داره لسنوات.
الصين ستكون مهمّة، كالعادة، في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي مجلس الأمن، وهي ستقدّم الدعم السياسي والدبلوماسي لروسيا وستعارض مشاريع القرارات ضدها. لكن الصين لن تقدم لروسيا في هذه المرحلة ما يحتاج له فلاديمير بوتين أن تقدّمه وهو- الدعم الاقتصادي الذي يحتاجه بوتين لروسيا. فالصين لن تغامر بـ”عقوبات ثانوية” Secondary أي عقوبات تفرض على الطرف الثالث الذي يتعاطى مع روسيا تجارياً. ثم إن أولويات الرئيس الصيني ليست روسية في هذا المنعطف، وإنما صينية.
بالطبع للاجتماع الأول بين الرئيسين الصيني والروسي في سمرقند أهمية لا سيّما في إطار بيانات التعاون العسكري وتعابير العداء للغرب وبالذات للولايات المتحدة. لكن الصين لا تريد فن الخطابة rhetoric في هذه المواقف، وإنما التحضير لها بكل دقة وحذر. اللقاء بين الرئيسين له أهمية للبلدين، هذا الاجتماع أتى في خضم أزمة فلاديمير بوتين داخلياً في روسيا وجاء ليؤكد أن الرئيس الروسي وجد في اللقاء طوق نجاة بالرغم من أن الصين لا تقدم لروسيا المساعدة التي يريدها بوتين منها.
لن تتغيّر المواقف الصينية قبل الاجتماع الذي يُعقد مرتين كل عقد للحزب الشيوعي الحاكم والمزمع عقده في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. من المتوقع أن يوافق الحزب على كسر قاعدة الرئاسة لولايتين فقط وأن يدعم الرئيس شي جينبينغ لولاية ثالثة. وهذا بحد ذاته قد يجعل من الرئيس شي رهينة للمؤسسة العسكرية الصينية التي قد تطالبه بأن يصبح راديكالياً وأكثر قسوة وحدّة في مواقفه الاستراتيجية.
الوقت ليس لصالح الرئيس بوتين ما لم يتخذ قرارات راديكالية تنقلب على الحسابات الخاطئة وسوء التقدير للمؤسسة العسكرية الروسية التي قلّلت من قدرات الجيش الأوكراني والمقاومة الأوكرانية كما من مستوى وأهمية الدعم العسكري لدول حلف شمال الأطلسي (ناتو) الى أوكرانيا. ما سيحتاجه بوتين هو مضاعفة عدد القوات الروسية في أوكرانيا وتكثيف الذخائر وشن هجوم شرس على مدينة يسكنها مليون نسمة.
“هذه الآن حرب وليست عمليات عسكرية ولا يمكننا الاستمرار بلطف” قال مصدر روسي، مشيراً الى أن معركة خاركوف تشكّل مفتاحاً أساسياً الى كييف. وأضاف: “لا مناص من تغييرٍ جذري نحو عقلية حرب بمعنى الحرب الجدّية… وأمامنا أسبوعان قبل أن نعرف إن كان لهجوم روسي مضاد فرصة النجاح أم لا. فنحن اليوم على الحافة- لسنا بعيدين جداً ولسنا قريبين جداً” من الهاوية.