توقفت منذ زمن عن الانزعاج من عدد سنوات عمري؛ لأنني اكتشفت أنه انزعاج عبثي بلا معنى، ربما عندما كان عمري 25 عاماً انزعجت وقتها من تقدم العمر، بينما اليوم أحمد الله على نعمة الشباب! وأتمنى من هذا المقال أن يجعل البعض يتوقفون مثلي عن الانزعاج العبثي من تقدم أعمارهم.
لماذا ينزعج الناس من تقدّم العمر؟
كلنا نعلم أن الأعمار بيد الله، ولربما ابن السادسة عشرة اليوم لم يتبقّ في عمره ما تبقى لابن الستين عاماً، لكن دعنا نتجاهل هذا الأمر في هذا المنشور، ولنفترض أن كل البشر سيعيشون نفس العمر وعدد السنوات، وليكن 70 عاماً مثلاً (مجرد افتراض لتوضيح وجهة نظر).
إذا افترضنا أن عمرك اليوم 35 عاماً، وهناك شاب آخر تعرفه عمره 25 عاماً، بمعنى أنه تبقى له من السنين ما يزيد عنك بعشرة أعوام، هل هذا شيء يزعجك؟ لماذا؟!
البعض يزعجه أن “أيام الشقاوة” مضت، وإن تأملت موقف هؤلاء لوجدت أنهم منزعجون أنه لم يعد لديهم مزيد من الوقت لتضييعه في أمور معينة، هم لا ينزعجون على الوقت الذي ضاع في “الشقاوة”، هم منزعجون لأنهم لم يعودوا قادرين بسبب سنهم لفعل المزيد من هذا النوع من “الشقاوة”!
من تناقض تفكير هذا النوع هو أنه عندما يأتي الأمر لمُتع الدنيا هم يعتبرون أنفسهم تقدموا في العمر، لكن عندما يأتي الأمر لحقوق “الآخرة” تجدهم يفترضون أنه ما زال لديهم الكثير من الوقت لتعويض ما فاتهم من تأدية حق الله لاحقاً، هدانا الله جميعاً.
والبعض الآخر يزعجه تقدم العمر؛ لأنه يرى أن فرصته في تحقيق طموحه تقل، وهذا النوع ينزعج على سنوات مضت لم يُحسن استغلالها، ويرى أن مَن هم أصغر منه سناً لديهم فرصة أفضل، ولهذا يغبطهم على صغر سنهم، وهذا النوع بالذات هو مَن كتبت هذا المنشور من أجله.
دعنا نتأمل موقف هؤلاء:
أولاً: أيهما أفضل حالاً، شاب في أول العشرين أوقع نفسه في عادات سيئة كالتدخين وإضاعة أيامه أمام التلفزيون وإهمال صحته، أم شاب في أول الأربعين يحافظ على صحته ولياقته ويعمل بجد فيما ينفعه في الدنيا والآخرة؟ أيهما فرصته أفضل في تحقيق طموحه فيما تبقّى له من عمر؟
العبرة ليست بقدر ما تبقى من العمر، العبرة بقدر ما تستطيع أنت في حدود قدراتك أن تحققه في هذا القدر الذي تبقى، وأن تعيش 10 أعوام تثابر على شيء نافع أفضل وأرحم من أن تعيش أربعين عاماً تائهاً ضائعاً إمعة، تفعل ما يفعل الناس حولك وتعيش حياة الأغنام التي يعيشونها!
ثانياً: لا معنى لأن تحزن على ما هو خارج نطاق اجتهادك، ربما يكون هناك مَن هو أصغر منك سناً وأكثر منك نجاحاً في مجالك؛ لأنه ببساطة لم يبدأ من نفس النقطة التي بدأت أنت منها، ربما ولِد هو في أسرة ميسورة الحال سهلت له وساعدته على النجاح، بينما بدأت أنت من الصفر أو أقل!
على سبيل المثال في مجال البرمجة والتصميم الذي أعمل فيه، كنت أرى شباباً صغاراً امتلكوا جهاز كمبيوتر قبل أن يمتلكه من هم أكبر منهم بسنوات كثيرة، وبالتالي مستواهم متقدم نسبياً، في هذه الحالة ليس لصاحب السن الكبير أن ينزعج أن من هم أصغر منه أكثر منه مهارة في التصميم مثلاً؛ لأنهم فعلياً لديهم خبرة عملية أكبر في هذا المجال، دعك من أن صغار السن لديهم من الوقت ما هو أكثر ومن المسؤوليات ما هو أقل، لا داعي هنا لصاحب السن الكبيرة أن يلوم نفسه على فرق المهارة!
لا يوجد شخص في الدنيا يجب عليك أن تقارن نفسك به سوى نفسك في الماضي، دائماً وأبداً قارن نفسك اليوم بما كنت عليه في الشهر/العام الماضي.. والشيء الوحيد الذي يجب أن يزعجك في الآخرين ليس فرق السن، بل فرق الاجتهاد، أن يكونوا أكثر “اجتهاداً” منك.. أما كونهم أكثر مالاً أو علماً أو أصغر سناً، فهذا شيء خارج نطاق اجتهادك، بافتراض أن بيئتهم ساعدتهم أكثر من بيئتك.
اغبط الشخص الذي يجتهد أكثر منك، بغض النظر عن كونه أصغر منك بعشر سنوات أو أكبر منك بعشرين عاماً.. أنت لست أفضل حالاً ممن يكبرك بعشرين عاماً إن كان هو أكثر اجتهاداً منك، وفرصتك في تحقيق هدفك في الحياة ليست أفضل منه لمجرد أنك أصغر سناً!
واشفق على مَن يضيع وقته، سواء كان ابن السادسة عشرة أو ابن الستين.
ثالثاً: يوسوس الشيطان للبعض أحياناً بأن الفرصة قد ضاعت على تحقيق “النجاح المنشود”، وأن ما تبقى من العمر لم يعد يكفي، وبالتالي لا داعي لبذل الجهد ولنكمل إضاعة ما تبقى، بعض هؤلاء يكون في منتصف العشرينات بالمناسبة!
لو كان عمرك 65 عاماً.. ولم يتبقّ سوى خمسة أعوام فقط، فهي كافية جداً جداً لتحقيق شيء رائع يؤثر في حياة الآلاف وربما الملايين.. لو أن كل ما مضى من عمرك كان بائساً وتعيساً ثم في النهاية ذقت طعم النجاح، فهذا كافٍ لأن يشعرك بأن حياتك كانت سعيدة!
من عاش في القصور متنعماً خمسين عاماً، ثم ذاق طعم البؤس يوماً واحداً ما خففت عنه سنين النعيم بؤس ذلك اليوم، ومن ذاق الشقاء جُل عمره، ثم خُتم له بأيام راحة فكأنما ما شقي قط!
ابن الثلاثين الذي يرى عمره قد مضى الآن، سيأتي عليه يوم بعدما يكمل الأربعين ويغبط ابن الثلاثين على شبابه، وكذلك بعد الخمسين والستين، لا تضيّع حياتك في الظن بأنها ضاعت!
ومرة أخرى.. توقف عن مقارنة نفسك بالآخرين إلا في مقدار الاجتهاد اليومي فقط.. الناس نشأت في ظروف مختلفة.. ليس شرطاً أن تكون أنت أفضل حالاً ممن هو أقل نجاحاً منك في مجالك فأنت لا تعلم من أين بدأ.
بعض الناس منذ وُلِد وحتى يموت سيكون أكثر منك مالاً حتى ولو لم يعمل ساعة في عمره، قارن نفسك اليوم بنفسك فيما مضى بشكل مستمر، إن كنت تتحسن فاحمد الله، وإن كان غير ذلك فاستغفره وخذ بالأسباب، لو لم يتبقّ من العمر سوى القليل فهو يكفي على الأقل لزرع فسيلة.