كتب ساطع نور الدين في،المدن:
خطوة الى الامام، خطوتان الى الوراء، تستدعيان التفكير، ولو الخيالي، في ما اذا كان يجوز اللجوء الى صناديق الاقتراع الشعبي مجدداً لانتخاب مجلس نيابي جديد، يسهم في إخراج لبنان من حالة الشلل التي عكسها المشهد الانتخابي الاخير، ويفرز بدقة ووضوح الغالبية عن الاقلية،عن الكتل التغييرية والمستقلة..أو البحث في ما اذا كان العجز الظاهر للبرلمان الحالي، عن إنتخاب رئيس مدني، يتطلب إختصار الطريق الوعر المؤدي الى التناوب على رئاسة فقدت وزنها، وجمهورية خسرت أهميتها.
بساطة المشهد الانتخابي، وشفافيته المطلقة، التي لم تفسح المجال لأي مفاجآت، لا بعدد الاوراق البيضاء ولا بمعدل توزع الاصوات الباقية، عكست تجربة نموذجية في تاريخ البرلمان اللبناني،منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم: لا إكراه من سوريا أو من أميركا أو من إسرائيل أو حتى من فرنسا.. فاكتشف اللبنانيون، أن مجلسهم النيابي لا يخضع، أو بالاحرى لم يكن يخضع حتى قبل ظهر يوم الخميس الموافق في 29 ايلول سبتمبر 2022، لأي إملاءات خارجية، لكنه لا يمتلك عملياً القدرة على أن ينتخب رئيساً جديداً للجمهورية، بملء إراته ومن تلقاء نفسه.. لا اليوم ولا غداً ولا الشهر المقبل، ولا حتى العام المقبل.
ليس من تقاليد “الديموقراطية” اللبنانية، اعادة التفويض الى الناخب ودعوته لكي يختار مجلساً نيابياً مختلفاً، حسبما هو شائع في مختلف الديموقراطيات. ولذلك لا يبقى سوى السعي الى السبل الملتوية للرئاسة الاولى، بعيداً عن قبة البرلمان وسيادته على نفسه، سواء بخرق الدستور أو العرف او التقليد، أو باستدعاء الخارج مجدداً، لكي يتدخل في اللحظة الاخيرة، لكي يتجنب الفراغ الدستوري والسياسي والامني، الذي يمكن أن يدفع المزيد من اللبنانيين الى ركوب موج البحر، وتنفيذ عمليات انتحار جماعي أكبر من تلك التي نفذت حتى الآن.
وهو أبغض الحلال في السياسة اللبنانية: أن يثبت مجلس النواب فشله، وأن ينهي دوره، وأن يحيله الى سواه، من دون ان يكون هناك أفق لتشكيل هيئة ناخبة بديلة، لويا جيرغا قبلية، طالما ان الطائفة المارونية تواجه كالعادة استحالة التفاهم على اختيار ممثلها الارفع في السلطة التنفيذية، وطالما ان الوقت ليس مناسباً الآن للبحث في المداورة الطائفية على الرئاسات الثلاث، التي سبق ان طرحتها كتلة الاغلبية المارونية الحالية، في ما مضى، كنوع من المكايدة والمناورة.. ولم تحولها الى مشروع “اصلاحي” جدي، مع أنها ليست من الاصلاح لا للنظام، ولا لأحوال الطائفة.
لكن المعضلة ليست في الطائفة وحدها، ولا بتعدد مرشحيها وتنوعهم. ولعل هذه من الميزات والحسنات، لا من السيئات والعقبات، التي كان يمكن تخطيها بالتوافق على آلية مارونية داخلية لانتخابات تمهيدية تسفر عن تقديم إثنين او ثلاثة مرشحين موارنة يحظون بغالبية اصوات الهيئة السياسية والاقتصادية والدينية الناخبة، ويتم عرضهم على البرلمان للتصويت لواحد منهم. وهذا الخيار كان وسيظل ملحاً طالما ان النظام الحالي لا ينتج سوى المآزق، ولا يستدعي سوى العبث بالطائفة والتلاعب برؤوسها الحامية.
لكنه أيضا خيار مؤجل. المهم الآن أن الخطوة الاولى الى الامام قد تمت بسلاسة، وقدمت صورة مربكة: كتلة الورقة البيضاء (63 نائبا) هي الاكبر، والاقدر على التعطيل، وعلى استدراج الخارج، لكنها لا تضمن النصاب القانوني. قالت بوضوح أنه ليس لديها مرشح، أو هي بتعبير أدق اسقطت من أوراقها ترشيح جبران باسيل وسليمان فرنجية معاً. مقابلها ظهرت كتلة اقلية ال36، أو الاربعين نائباً، (التي كان يفترض انها تشغل نحو ستين مقعداً) وهي إختارت على عجل ميشال معوض مرشحاً للتفاوض، لن يكون من السهل إقناعه بعد اليوم أن الرئاسة ليست في متناوله. وبينهما، حققت كتلة نواب التغيير معجزة سياسية باتفاق 11 من نوابها على مرشح واحد، هو سليم إده..حتى ولو لم يصمد إسمه حتى جلسة الانتخاب المقبلة، إلا بمعجزة أيضاً.
الآن، يبدأ مسار ملء الفراغ البرلماني والرئاسي المزدوج، بالطرق المتعرجة، التي لم يكن هناك سواها أصلاً.