كتبت راغدة درغام..
عندما يتوصل لبنان وإسرائيل الى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بينهما، لن تكون ثروة النفط والغاز وحدها مفيدة للبنان وإنما سيعني الترسيم أن لا حرب لبنانية – إسرائيلية طالما أن الضمانات الأساسية في الاتفاق تنصّ على أن لا إشعال للجبهة، ولا توتّر، ولا استفزاز من كلا الطرفين. “حزب الله” طرف صامت في التعهدات بتحييد الحدود وبعدم اختلاق المواجهة. هذا يعني أن الحزب، بدعم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، اتخذ قرار إحياء “النأي بالنفس” عن التطورات في سوريا وفلسطين وعدم استخدام الحدود والجبهة اللبنانية ساحة للانتقام من أجل سوريا وفلسطين.
التفاوض الذي سيتم في الناقورة في الأيام المقبلة على تفاصيل تقنية في اتفاق ترسيم الحدود سيكون تفاوضاً مباشراً بين لبنان وإسرائيل والولايات المتحدة بمشاركة من الأمم المتحدة.
هذا يعني أن الطرف الأميركي على طاولة التفاوض، وهو بذلك ضامن للاتفاق وليس فقط مسهّلاً أساسياً للتوصل اليه. الدور الذي أداه الوسيط القدير، آموس هوكشتاين، كان محوريّاً في التوصل الى التفاؤل بالاتفاق، وهو لن يتقاعس في إتمامه بل وفي مراقبة صيانته من مزايدات إسرائيل أو “حزب الله” أو لبنان. إنه إنجاز فائق الأهمية للبلدين كما لإدارة جو بايدن التي هي في حاجة الى إنجاز من هذا النوع.
هناك تعهدات شفوية في أن إسرائيل لن تقوم باستفزاز “حزب الله” لأنها وجدت أن مصلحتها هي استخراج الغاز وليس التورّط في حرب تعطّل الاستفادة من ثروة النفط والغاز- هذا طالما أن “حزب الله” لا يستفزها. هناك تعهدات شفوية أيضاً من “حزب الله” أنه لن يُشعل الجبهة اللبنانية مع إسرائيل شرط ألاّ تستفزه إسرائيل لأنه وجد في ترسيم الحدود واستخراج النفط والغاز فوائد له أيضاً وليس فقط فائدة للبنان.
وهكذا، وفي معادلة اللااستفزاز والتفاهمات الصامتة على تحييد الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، يدخل لبنان مرحلة جديدة نوعيّاً في علاقاته مع إسرائيل. كما أن إيران و”حزب الله” بدورهما يتفاهمان مع إسرائيل في نقلة نوعيّة، مهما كابرا وأعلنا العكس. ذلك أن البراغماتية الإيرانية تتطلب من رجال النظام في طهران إعادة الحسابات والتموضع مجدّداً نظراً للأوضاع الداخلية، وأمام تعرقل المفاوضات على إحياء الاتفاقية النووية، ولأن مشروع النهضة الاقتصادية للجمهورية الإسلامية الإيرانية يحتاج الى أموال إيران لإيران وليس لدعم مشاريع “حزب الله” ضد إسرائيل عبر الجبهة اللبنانية.
ثم إن الجبهة السورية بين إيران وإسرائيل وبين إسرائيل و”حزب الله” تحتاج الى تنفيس وليس الى تصعيد يؤذي “الحرس الثوري” ومشاريع النظام الإقليمية والداخلية. لذلك، ارتأت القيادة الإيرانية أن “قب الباط” لتفاهمات مع إسرائيل مفيد لها لا سيّما أن هذه القيادة ليست مضطرة للتعامل مباشرة وعلناً مع هذه التفاهمات.
لثورة النساء والشباب والاحتجاجات على قتل مهسا أميني وعشرات غيرها خلال الأسابيع الماضية تأثير في الحسابات الإيرانية عامة، لكنها ليست ذات علاقة مباشرة مع قرار طهران عدم تعطيل اتفاق ترسيم الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. هذا ما لم يطرأ تغيير مفاجئ في الأيام المقبلة بين كتابة هذه السطور ونشر المقال. فالقيادة الإيرانية اتخذت قرار مصادرة الانتفاضة وإلغاء فاعليتها بأي ثمن كان وهي واثقة من أن هذه احتجاجات عابرة. لكن القيادة ليست متأكدة من أن المفاوضات النووية انتهت تماماً.
الانتخابات النصفية في الكونغرس الأميركي اضطرت بالجميع للعودة الى الوراء قليلاً والتفكير كثيراً. في كيفية إنجاز التوصّل الى الصفقة بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية – إنما بعد الانتخابات مطلع الشهر المقبل. لعل هذا سبب رئيسي في قرار طهران إبداء حُسن النية وعدم تعطيل اتفاق ترسيم الحدود البحرية من أجل استخراج النفط والغاز. فأوروبا ما زالت مهمة لإيران وهي تتّكِل عليها من أجل الدفع بإدارة بايدن الى الصفقة النووية. وأوروبا حضّت طهران على أهمية إظهار حسن النية في هذا الملف لأسباب ذات علاقة بالنفط والغاز كما لأسباب نووية.
ثم إن البيئة الدولية لا بد من أنها ساهمت في الحسابات الإيرانية لا سيّما لجهة التطورات غير المواتية لروسيا في الحرب الأوكرانية، بدءاً بالخسارة والتعرية المدهشة للجيش الروسي، وانتهاءً بارتفاع الأصوات التي تتحدّث عن تغيير نظام الحكم في روسيا، بمعنى فلاديمير بوتين بالذات.
هذا التطوّر المفاجئ لا يمر مرور الكرام على النظام في طهران الذي يفهم لغة تغيير النظام. وسط هذه التطورات، لا بد أن مراجعة ذاتية تمر في بال حكّام إيران وقيادات شركائهم في لبنان لا سيّما في أجواء العزلة لكل من إيران و”حزب الله” مقارنة مع أجواء الانفتاح والتغيير بالذات في الدول العربية في منطقة الخليج. لعل قيادة “حزب الله” وجدت في تحييد الجبهة اللبنانية فسحة ارتياح لها، فبدأت تتحدّث بلغة مسؤولية الدولة اللبنانية وحدها وحصراً عن ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل كي لا تعترف أنها انساقت الى الموافقة بإيحاءٍ من طهران وأنها كانت تتحمّل مسؤولية وعواقب إفشال استخراج الثروة اللبنانية في خضم انهيار لبنان. هذا لا يعني أن “حزب الله” عاد الى كنف لبنان نهائياً، لكنه قد يكون خطوة مهمّة نحو لبننته.
إثبات نظافة العزم على أن تكون هذه الثروة للبنان يتطلّب الصدق في إنشاء الصندوق السيادي. الضغط الشعبي بالتأكيد مهمّ كي لا يبقى الفرد اللبناني خارج تقرير مصيره.
المطمئن أن يكون الصندوق السيادي تحت إشراف الدولة اللبنانية، وشركات التنقيب، والأمم المتحدة، بالرغم من أن الدولة اللبنانية هي التي توقّع على الاتفاق. أحد الشروط الأساسية في الاتفاق هو شرط إنشاء الصندوق السيادي- وهكذا سيكون لأسباب عمليّة من ضمنها كلفة التأمين التي ستكون أقلّ إذا كان هناك صندوق سيادي.
اليوم، أولى المسؤوليات تقع على أكتاف الحكومة اللبنانية وكذلك مجلس النواب وهي: إقرار إنشاء الصندوق السيادي. فإذا فشل أحدهما في ذلك، على المواطن اللبناني والشركاء الدوليين تحميله كامل المسؤولية.
أحد الضالعين في التوصّل الى حيث نحن الآن على وشك توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية، أشار الى أن الجميع متفق على عدم الخلط بين الحدود البحرية والحدود البرية. “حزب الله” لا يوافق على ترسيم الحدود البرية لا مع إسرائيل ولا مع سوريا، فهو لا يريد إيقاف الإمدادات العسكرية والتهريب عبر الحدود اللبنانية – السورية، ولا يريد أن تقتنع دمشق بالإجابة عن سؤال عمره سنوات وضعته الأمم المتحدة أمامها وهو: هل مزارع شبعا لبنانية أو سورية؟
الحكومة السورية لم ترد، والأرجح أنها لن تجيب الآن لأنها تعتبر مزارع شبعا أراضي سورية وهي لن تقبل بتفكيك ولاية فك الاشتباك UNDOF بينها وبين إسرائيل من أجل إخراج المزارع من خانة الأراضي السورية المحتلة لتقدمها الى لبنان. فمن يدري، لعل تفاهمات صامتة تُعَّد أيضاً على الجبهة السورية – الإسرائيلية، ودمشق لن تريد استباق نفسها أو إقفال السبل أمامها.
وكما قال خبير لبناني شارك في إعداد الاتفاق، “لعلنا وصلنا الى هنا بعدما عانينا طويلاً في ظل ثقافة التعايش مع الحروب، واليوم إننا في شغف للعيش في ظل ثقافة السلام”.
المصدر: النهار العربي