لم تكد تمر بضع ساعات على استعار حملة شنها أعضاء بارزون من الحزب الديموقراطي في الكونغرس على المملكة العربية السعودية، على خلفية قرار “أوبك-بلس” في اجتماعها الأخير خفض مستوى الإنتاج بمعدل مليوني برميل يومياً، وفي مقدمتهم رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بوب مننديز، حتى أطل جون كيربي وهو منسق الاتصالات في مجلس الأمن القومي الأميركي، أي أنه المسؤول الإعلامي في المجلس، عبر شبكة “سي إن إن ” ليلاقي الحملة الديموقراطية في الكونغرس بموقف من صلب الإدارة الأميركية، إن لم يكن من قلب المكتب الييضاوي (مكتب الرئيس) قائلاً إن الرئيس جو بايدن هو في صدد إجراء إعادة تقييم للعلاقات مع المملكة العربية السعودية.
ولم يستبعد كيربي أن يشمل الأمر اتخاذ إجراءات أميركية في ضوء قرار “أوبك”. وأشار كيربي إلى استعداد الرئيس جو بايدن للعمل مع الكونغرس بشأن كيفية الذهاب قدماً في العلاقات مع السعودية. وبايدن راغب في البدء منذ الآن في عملية التقييم وإعادة النظر والتحدث مع الكونغرس بهذا الشأن.
هذا تطور سلبي من جانب إدارة الرئيس بايدن في ما يتعلق بالعلاقات مع المملكة العربية السعودية. فالحديث الدائر في أروقة الكونغرس وقد بدأ البيت الأبيض يسربه كمعلومات إلى الصحافة الأميركية أيضاً، أن إعادة التقييم قد تجري فيها مناقشة الملف الأمني، أي التعاون الأمني بين البلدين، أكان على صعيد مبيعات الأسلحة أو على صعيد نشر المنظومات الدفاعية. بمعنى آخر، إن بايدن يستعجل شخصياً الخوض في موضوع إعادة التقييم، وهي باللغة الدبلوماسية عبارة عن إعادة النظر في مستوى العلاقات بين هذه الإدارة والقيادة السعودية.
لو لم يكن الأمر بهذه الحدة لما كلف جون كيربي بالخروج عبر وسيلة إعلامية رئيسية لإبلاغ موقف رسمي صادر من قلب المستوى الأمني – السياسي في الإدارة الأميركية. ومعلوم أن مجلس الأمن القومي مرتبط مباشرة بالبيت الأبيض. وما من شك في أن بايدن اعتبر أن قرار “أوبك-بلس” موجه ضده وضد حزبه للتأثير في مسار الانتخابات النصفية الشهر المقبل. أضف إلى ذلك أنه اعتبر أن الرياض لم تف بوعد ضمني برفع مستوى إنتاجها من النفط في مطلع الخريف الحالي لمنع ارتفاع الأسعار.
طبعاً هذه الأسباب الرئيسية التي يستند إليها موقف البيت الأبيض. لكنه موقف يأبى أن يرد على جملة من الأسئلة المرتبطة بتوازن العلاقة مع المملكة العربية السعودية، وشركائها في مجلس التعاون الخليجي. فلغاية الآن لم تعط إدارة بايدن إجابات مقنعة عن سبب إصرارها على رفع ميليشيات الحوثيين من لوائح الإرهاب، ورفض إعادة تصنيفها إرهابية بعد الهجمات المتكررة التي قامت بها بالمسيّرات والصواريخ البالستية على المنشآت المدنية الحيوية في السعودية والإمارات. أكثر من ذلك، بدا واضحاً أن الرئيس بايدن لا يزال يضع نصب عينيه أولوية العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، وهو اتفاق ضعيف وقصير المدى ولا يضمن عدم استحواذ طهران على القنبلة النووية، في وقت يفتح أمامها الأبواب لتعبئة خزائنها بمئات المليارات من الدولات التي تعرف واشنطن منذ أيام الرئيس الأسبق باراك أوباما أن جزءاً أساسياً تلك الأموال ذهب ويذهب وسيذهب لتمويل سياسات إيران العدوانية في الشرق العربي، وكذلك لتسليح ميليشياتها في العديد من البلدان، من العراق إلى سوريا ولبنان وغزة، وصولاً إلى اليمن. كل هذا مؤداه هز استقرار الكيانات والدول العربية وتهديد أمنها القومي والاجتماعي، بسبب الرهانات الأميركية الديموقراطية العميقة على النظام الإيراني. وما تقدم يشي بأن الخيارات التي اتخذها الرئيس أوباما ورثها عنه الرئيس بايدن.
صحيح أن واشنطن منخرطة بقوة في مواجهة روسيا في حربها على أوكرانيا، لكن الصحيح أيضاً أنها تصر على إنفاذ سياسة تذكرنا بسياسة الرئيس جورج دبليو بوش إثر هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، عندما طرح معادلة “إما معنا أو ضدنا”، بهذا المعنى فإنها تنظر إلى دعم الرياض وشركائها في مجلس التعاون الخليجي قرار “أوبك-بلس” باعتباره تجاوزاً لخطوط أميركية حمر في مواجهة استراتيجية.
لكن واشنطن ترفض أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح حيوية لحلفائها العرب، أقله في قطاع الطاقة، في وقت نسمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوجه انتقادات حادة إلى الأميركيين لأنهم “يبيعون الغاز المسيل” لأوروبا بأربعة أضعاف سعره الطبيعي. بمعنى أن إدارة بايدن لا تمانع أن تستفيد شركاتها النفطية المحلية من ارتفاع الأسعار، لكنها ترفض أن يحاول حلفاؤها العرب تثبيت سعر عادل للنفط (الغاز غير مطروح) يمنع دخولها في مرحلة ركود بفعل حدوث عجز كبير في الموازنات الوطنية. هذه عينة صغيرة من نواقص المقاربة الأميركية الأخيرة تجاه حلفائها العرب، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية التي تشعر أن بايدن الذي زارها في منتصف شهر تموز – يوليو الفائت لم يقرأ في الزيارة سوى أنها “تنازل رئاسي” شكلي للقيادة السعودية من أجل حشد الحلفاء في المواجهة الاستراتيجية مع روسيا، ولم ير أن ما يعتبره “تنازلاً” عن وعود انتخابية له سابقة لم يكن الأساس، لأنه لم ير أن الحلفاء تغيروا، وأن مصالح الحلفاء أول ما تحتاجه أن ينظر إليها بعينين اثنتين.
المصدر: النهار- علي حمادة