لافت أن يعلن الرئيس اللبناني ميشال عون، في سياق الاحتفال الخطابي باتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، بدء إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. وما يلفت أن المسألتين غير مترابطتين ولا علاقة منطقية بين الاتفاق الحدودي الذي جرى بوساطة ورعاية أميركيتين ومسألة أخرى لا اتفاق بشأنها مع سوريا، ولا وساطة أو رعاية دوليتين تنشطان لتحقيقه.
لا تفسير لرواية عون بشأن مسألة عودة اللاجئين، وخصوصاً أنه يجري إقحامها إقحاماً مفتعلاً ومن خارج أي سياق داخلي أو إقليمي. وما يمكن أن يشرح حيثيات هذا الإعلان يندرج ضمن الحسابات السياسوية المحلية المرتبطة بمستقبل العونية السياسية ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل داخل المشهد السياسي اللبناني عموماً، والمشهد المسيحي خصوصاً.
لا يملك عون أي قدرة على إثارة جدية لمسألة عودة اللاجئين السوريين. سبق لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن أثار الأمر رسمياً في حزيران (يونيو)، مهدّداً مهوّلاً من دون أن يغيّر ذلك من مواقف العواصم المعنيّة. الأمر لا يتعلق بلبنان وحده بل بقبول النظام في سوريا باستعادة المواطنين السوريين الراغبين بالعودة، مع ما يفرض ذلك من ضمانات أمنية ومعيشية لا يبدو أن دمشق راغبة بها أو قادرة على توفيرها. كما أن قراراً بهذا الشأن يحتاج إلى إرادة سياسية في دمشق، شديدة الصلة بمستقبل النظام وطبيعة التفاهمات الدولية التي توفّر حاضنة لإعادة إعمار البلد وعودة الهاربين من حربه.
قد يُسال حبر كثير حول ما يختفي في ثنايا الاتفاق الذي نجح الوسيط الدولي آموس هوكشتاين في انتزاعه من الطرفين اللبناني والإسرائيلي. وقد تتدافع التحليلات حيال مصلحة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في تظهير الحدث بصفته إنجازاً تاريخياً قبل أسابيع من الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة في 8 تشرين الثاني (نوفمبر)، ومصلحة رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد الذي يقود تحالفاً للفوز في انتخابات الكنيست في الأول من الشهر نفسه.
الأمر ينسحب على ما يمكن لاتفاق من هذا النوع أن يحمله من فوائد غير واضحة لـ”حزب الله”، ومن ورائه نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، ومن وعود بشأن مستقبل الحزب في لبنان ومستقبل المفاوضات الأميركية مع طهران بشأن العقوبات والودائع المالية في الخارج ومصير الاتفاق النووي. وفي سياق ما هو مجهول، تلك المعلومات التي تحدثت عن لقاء جمع جبران باسيل مع المبعوث الأميركي هوكشتاين في ألمانيا في شباط (فبراير)، قد تسرّب منه مقايضة ما تتعلق بمستقبل العقوبات الأميركية على صهر الرئيس عون.
أمر المقايضات وارد ومنطقي منذ أن رفض عون تثبيت الخطّ 29 كحدود بحرية لبنانية، توسّع من مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى 2290 كيلومتراً، ورفض تعديل مرسوم الحدود 6433 المتعلق بالأمر وإيداعه لدى الأمم المتحدة. والواضح أن مصير هذا الخطّ كان مناورة للابتزاز والمقايضة، جرى إسقاطه والتنازل عنه. وسواء تخلى لبنان عن الخطّ ومكتسباته بسبب رفض أميركي وإسرائيلي قاطع القبول به قاعدة للتفاوض، أو بسبب صفقة تمت وراء الأبواب، فإن احتمالات وجود مقايضة تخصّ باسيل أو أي قضايا أخرى احتمال وارد، ولن يكون مفاجئاً في علم العلاقات الدولية.
ومع ذلك، فإن تلك المقايضة لا يمكن أن تطال ملف سوريا وعلاقة لبنان بالأزمة هناك، بما في ذلك مسألة وجود اللاجئين السوريين. فلا أحد يمنع عودة السوريين الطوعية إلى بلادهم، وليس هناك أي خطاب سياسي لبناني، حتى من قبل المعادين عنصرياً لهذا الوجود، يدعو إلى ترحيل اللاجئين بالقوة، ناهيك عن أن المجتمع الدولي الذي تموّل مؤسساته الأممية والأوروبية بيروت لدعم إيواء اللاجئين، لن يقبل ولن يمنح أي تغطية لمسألة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم من دون تسوية سياسية تحظى بموافقة ورعاية دوليتين.
يندرج اتفاق ترسيم الحدود البحرية داخل سياق تطبيع علاقات لبنان وموقعه وتطويعها داخل المشهد الدولي العام. ولا يمكن للبنان، ولا يملك أساساً، أن يكون نافراً مغرداً خارج السياقات الدولية بعامة، خصوصاً في ما يتعلق بالمسألة السورية. فحين يصوّت لبنان لمصلحة قرار الأمم المتحدة الأخير المعارض لقيام روسيا بتنظيم استفتاء في مناطق أوكرانية وإعلان ضمها إلى الأراضي الروسية لاحقاً، فإن قرار بيروت التي كان بإمكانها أن ترفض القرار أو تمتنع عن التصويت عليه، اختارت، باتّساق كامل مع روحية اتفاق الترسيم ورعاته، أن تكون منسجمة مع التيار الدولي الغالب.
لم تستطع روسيا حتى الآن، بما تملكه من نفوذ عسكري وسياسي في سوريا، أن تفرض على العالم، وهي التي تفرض ما تفرضه في أوكرانيا، رؤيتها للحلّ السوري النهائي. تعجز موسكو عن تسويق مشروعها السوري على الحليفين، التركي والإيراني، وطبعاً تعجز عن تمرير ما تراه تسوية نهائية في سوريا على المجتمع الدولي، وخصوصاً المنظومة الغربية، لا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فما زال شرط أي تسوية تحظى بالقبول الدولي يتطلب تسوية بين نظام ومعارضة تقوم على القرار الأممي 2254، ولا شيء يشي بتحرّك الملف السوري بالاتجاه الذي يوحي للرئيس اللبناني بـ”تبشير” اللبنانيين ببدء عودة اللاجئين السوريين.
ولئن جرى ويجري وسيجري تنظيم عودة دفعات من العائلات اللاجئة تحت إشراف جهاز الأمن العام اللبناني وجهود وزراة المهجرين، فإن تقارير تحدثت عن عودة “العائدين” من جديد إلى لبنان بأشكال غير شرعية مختلفة، وأن الأمر لا يزال ضجيجاً إعلامياً لا يرقى إلى مستوى العودة المأمولة التي يعد بها رئيس الجمهورية.
وبغضّ النظر عن الحسابات الظرفية لوعود عون، غير أن إعداد لبنان ورشة التنقيب عن الطاقة في مياهه قد يتطلب ترتيباً للبيت الداخلي اللبناني على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني، على نحو قد تصبح معه قضية اللاجئين السوريين مسألة ملحّة تتطلب معالجة ما. والأمر قد يذهب صوب احتمالات أكبر، ذلك أن ورشة استغلال الطاقة في شرق المتوسط وإنهاء الاستثناء اللبناني، ستتطلب أيضاً ترسيماً لحدود لبنان البحرية مع سوريا في الشمال، وصولاً إلى الدفع بتفاهمات أوسع تصبح وفقها التسوية السورية الكبرى مطلباً أممياً قد يصير ضرورياً عاجلاً.