خاص الهديل:
ليس مهما السبب الذي أدى إلى “تأجيل” أو “تطيير” سفر الوفد اللبناني إلى دمشق لبحث مسألة ترسيم الحدود البحرية بين البلدين الشقيقين والعربيين.
.. المهم ان الإرجاء يوحي بأن هناك مشكلة جوهرية “بالتوقيت”، حتى لو قال الجانب السوري غير ذلك، وحتى لو أدعى العهد ومؤيدوه وخصومه، غير ذلك أيضا!!.
“التوقيت” المقصود هنا، هو الذي يصفه القادة الاستراتيجيون ب “جنرال الوقت” الذي تتأتى مواهبة من مراعاة معادلة ان السلام الناجح هو توقيت مناسب، والحرب الناجحة هي أيضاً توقيت مناسب. ولا يبدو أن قرار فتح ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وسورية، جاء في الوقت الاستراتيجي المناسب؛ فهذا الملف يتعدى كونه تكتيكا يعتمده الرئيس عون وصهره حتى يسجلا نقطة نجاح في آخر عهديهما الفاشل؛ ذلك ان ترسيم الحدود بين البلدين هو أمر بحجم تاريخ ومستقبل، وليس بحجم تكتيكات كيدية تمارس بمناسبة آخر أسبوع في عمر رئاسة جمهورية آفلة.
حتى يصبح ممكنا البدء بترسيم الحدود اللبنانية السورية، لا بد أن يمضي وقتاً على اتفاق هوكشتاين.. لا أحد عاقل في لبنان يظن ان سورية ستقبل بأن يبدو ترسيم حدودها مع لبنان هو تتمة طبيعية لترسيم حدود لبنان مع الكيان الصهيوني..
أضف ان قرار ترسيم حدود البحر التي هي بنفس الوقت حدود الغاز، ليس بينهما بخصوص بلوكات الجنوب مع اسرائيل، وبلوكات الشمال مع سورية نفس التوازنات، بل بينهما صراع روسي اميركي يرقى لمستوى الحرب الباردة.
وحتى لو استقبلت سورية وفد لبنان، فإن التوقيت في سورية اليوم ليس وقت ترسيم الغاز بين البلدين، بل وقت تداخل أزمة سورية مع أزمة الغاز الروسية الأميركية العابرة للحدود.. كما أن الوقت في دمشق اليوم، ليس وقت تخطيط الجغرافيا مع لبنان، بل وقت إعادة تخطيط التاريخ بين البلدين.
لم يلتفت صاحب قرار فتح ملف الحدود مع سورية، الى أن وجود موسكو حالياً في المياه الدافئة تشبه مدمرة سوفياتية جاهزة لاطلاق النار، وليست جاهزة لعزف اناشيد الاحتفال باتفاقات ترسيم حدود الغاز بين دول المتوسط.
خلاصة القول ان من خطط في لبنان لجعل توقيت ترسيم الحدود مع سورية يلي ترسيم الحدود مع إسرائيل وكأنه تتمة له، هو صاحب تفكير غير منطقي.. ومن خطط في بيروت لجعل توقيت ترسيم حدود الغاز مع سورية في زمن الحرب على الغاز بين موسكو وواشطن، هو صاحب تخطيط غير عقلاني.
يجب الاعتراف بأن العلاقة بين لبنان وسورية لم تعد تتحكم بها الاعتبارات ذاتها التي يحفظها اللبنانيون والسوريون عن ظهر قلب.. فخلال العقدين الماضيين جرت في نهر العلاقات السورية اللبنانية، مياه كثيرة، وحصل في مجراها التاريخي اكثر من تسونامي واكثر من عاصفة بحرية؛ وكل هذا أدى الى ان سورية ٢٠٢٢، لم تعد هي ذاتها سورية التي يعرفها اللبنانيون، وادى ايضا إلى جعل لبنان ٢٠٢٢ ليس هو ذاته بلد الارز الذي اعتادت عليه دمشق لعقود خلت.
ما تغير في البلدين، وما تغير في العلاقات بين البلدين كان كبيرا وبنيويا؛ وخطورته ان من صنعه هو الأحداث التي فرضت نفسها على لبنان وسورية، وليس جهة في سورية، أو جهة أو جهات في لبنان. ما حدث كان نوعا من “إنقلاب التاريخ” الذي بات هو الحصان الجامح، فيما كل من لبنان وسورية هما العربتان المنقادتان منه. والنظر إلى ان الظروف المتسمة بالطابع التاريخي، قالت حكمها على منطق الأحداث في سورية ولبنان، فإن البلدين اعتادا التعايش مع خلافاتهما ومع ازماتهما، وصارت هذه الخلافات وهذه الازمات بمثابة حياة طبيعية ويومية وإدارة قائمة وتلقائية للأزمة غير المعلنة، ولكنها موجودة، و هي الواقع السياسي الجديد بين البلدين..
احيانا تتذكر دمشق في غمرة مشاكلها ان على لبنان ان يطبع علاقته الرسمية والحكومية بها.. وأحيانا ينسى لبنان ان جارته الوحيدة التي يملك حدودا برية معها، لها مطالب منه. ولكن بالنهاية يعلم الموجودن في الحكم المرتبك في كل من لبنان وسورية ان التحدث عن إعادة الأمور إلى سياقها الطبيعي أو السابق، ليس وقته الآن.. فالتوقيت السوري اللبناني؛ لا يزال هو توقيت تعايش مع الأزمة المزمنة والبعيدة حتى هذه اللحظة عن إيجاد حلول لها؛ لا داخلية ولا حتى عربية أو دولية.
ولو ان الظروف طبيعة؛ ولو كانت دمشق هي ذاتها في اقليمها وفي وضعها الداخلي، وبيروت هي نفسها في انسجام توازناتها العربية، ما كان يمكن تصور ان يتوصل لبنان لحل على الحدود البحرية مع اسرائيل، قبل أن يتوصل لحل من هذا النوع مع سورية. وما كان يمكن تصور ان يجلس لبنان وحيدا مقابل المفاوض الأميركي ومعه الاسرائيلي، من دون أن يجلس إلى جانبه المفاوض السوري..
.. صحيح ان الرئيس حافظ الأسد لم يكن يعترف بأن حدود لبنان مع سورية هي حدود عربية، بل كان يعتبرها “حدودا استعمارية”، ولكن عائلة الأسد تعاملوا معها (اي الحدود) بوصفها أمرا واقعا يجب الاعتراف به ضمن استراتيجية وحدة المسارين بين البلدين اللذين يضمان شعبا واحدا. وللمفارقة انه منذ ايام قليلة عينت سورية سفيرا جديدا لها في لبنان من آل سوسان، وبالمناسبة فإن هذه العائلة مشتركة بين فرع لها في مدينة صيدا اللبنانية، وأصل لها يقيم في سورية. وتلك امثولة محببة لدى السوريين لأنها تقول ان الحدود بين البلدين، هي كعائلات لبنان وسورية التي تبدأ على الضفة الأخرى من مركز المصنع الحدودي لجهة سورية، وتنتهي على الضفة الأخرى من هذا المركز لجهة لبنان.
وكان الرئيس حافظ الأسد حريصا على انتقاء إستراتيجية مع لبنان تؤدي من جهة، “غرض الاعتراف بلبنان ككيان مستقل”، ولكنها من جهة أخرى، “لا تقمع خيال ايديولوجية الوحدة العربية الرافضة للاعتراف بحدود سايكس بيكو”؛ ولذلك قال الأسد الأب: نحن ولبنان شعب واحد في دولتين.
وكل هذا الكلام الآنف، يذكر بتاريخ بلدين كان حاضرا قبل فترة صغيرة، ولكنه الآن يبدو وكأنه تاريخ غابر وقديم.. ومرد ذلك لا يعود إلى أن الزمن تقادم كثيرا، بل لأن الأحداث في العقدين الاخيرين كانت ضخمة، وحرقت المراحل، وجعلت الصورة بين لبنان وسورية وفي لبنان وسورية، مغايرة لأبعد الحدود.