خاص الهديل:
بعد ساعات يغادر الرئيس ميشال عون قصر بعبدا. وليس مضمونا أنه بمغادرته القصر سوف تنتهي مرحلة لنبدأ مرحلة جديدة؛ وليس مضمونا ايضا أنه بنهاية عهده ستنتهي أزمة انهيار البلد؛ ذلك ان انهيار الاقتصاد والدولة هو حصيلة تضافر ما يمكن تسميته بعهود جميع أحزاب الطوائف داخل عهد عون.
والحق يقال ان عون ساهم في الانهيار، ولكن الأحزاب الأخرى كان لها دوراً موازاً في خراب البصرة. وعليه فإن خروج عون من بعبدا، لا يعني خروج الأزمة من لبنان؛ بل هي ستستمر مع بقية منظومة الخراب وضمن ظروف داخلية تختلف بالشكل، ولكن لا تتغير بالمضمون.
والواقع ان السؤال الذي سيطرح نفسه على المسيحيين في لبنان بعد خروج عون من بعبدا، هو ما هي العبر الاساسية التي يجب على المسيحي في لبنان ان يستنتجها بعد ما انتهى عهد الجنرال ميشال عون الرئاسي على النحو الكوارثي الذي انتهى اليه؟؟.
الاستنتاج الأول سيأخذ مسيحيي لبنان الى اجراء مقارنة بين الرؤساء الموارنة الذين مروا على قصر بعبدا من بشارة الخوري إلى ميشال عون..
ولا شك ان هناك نقطة مشتركة بين بشارة الخوري، أول رئيس في الجمهورية الأولى في لبنان (صيغة ال ٤٣)، وبين عون آخر رئيس حتى الآن في جمهورية الطائف؛ فكلا الرئيسين ابتليا بقريبين لهما خربا عهديهما، الاولى ابتلي بشقيقه سليم الخوري، والثاني بصهره جبران باسيل. ولكن اضافة لما فعله الصهر فإن عهد عون حمل معه منذ انتخابه رئيسا للجمهورية، جينات الدمار، فهو من ناحية جاء الى بعبدا على حصان الغلبة الداخلية التي يمثلها حزب الله، وعلى حصان انتمائه لمحور الممانعة المشتبك مع المحور العربي والغربي. ولعل ما جعل هذا الامر في غاية السوء، هو ان عون جاء بعنوان الممانعة في وقت كان يوجد في البيت الرئيس ترامب المعادي للاتفاق النووي مع طهران، والساعي لتقليم اضافر إيران في المنطقة.. ومن هنا وقع لبنان في مرمى مدافع ترامب الاقتصادية غير المسبوقة..
لا شك ان المسيحيون تعلموا من هذه التجربة الامثولة التالية، وهي أنه يجب تجنب ان يكون في قصر بعبدا رئيسا مسيحيا ينتمي لمحور دولي او اقليمي ضد محور آخر ، وان المطلوب من رئيس الجمهورية ان يكون غربي الهوا ولكن ليس محسوبا على المحور الغربي ضد المحور الشرقي او بالعكس. ويمكن الآن بمناسبة خروج عون استدراك كيف تم حصار اميل لحود في قصر بعبدا عندما انقلب الغرب على حلفائه السوريين، وحتى كيف ثار لبنان بوجه كميل شمعون حينما انحاز الى جانب محور الغرب في حلف بغداد ضد الشرق بزعامة عبد الناصر.
ان الرسالة المستخلصة من تجربة كميل شمعون مع حلف بغداد، وتجربة اميل لحود وتحالفه مع السوريين، وتجربة عون وتحالفه مع محور الممانعة، تقول بوضوح ان رئيس الجمهورية حينما يعلن عن نفسه انه مع محور دولي واقليمي ضد محور آخر، فإن هذا لا يعرض فقط الرئيس للحصار والسقوط، بل يعرض ايضا لبنان لخطر وجودي كما يحصل اليوم، وكما حصل خلال ثورة العام ١٩٥٨ حينما اختار شمعون حلف بغداد وبريطانيا ضد القاهرة، وكما حصل في زمن اميل لحود بعد العام ٢٠٠٥ ..
الاستنتاج الثاني يتصل بأن رئيس الجمهورية لا يستطيع أن يخرج عن الثوابت الوطنية للمسيحيبن، وهي ثلاثة: “السيادة والحرية والجيش”.. والواقع ان ميشال عون خطف قلوب شريحة واسعة من المسيحيين لفترة طويلة، لأنه مثل في وجدانهم هذه القيم الثلاث، ولكنه حينما وصل لقصر بعبدا اعتبر مسيحيون كثر أنه لم يحافظ على ثقته بهم لجهة استمراره بتبني هذه القيم الثلاث بنفس الشفافية.
وجوهر قصة عون، هو ان المسيحيين راهنوا عليه كونه نجح في تقديم نفسه لهم على انه شخصية تحمل في وجدانها وعقلها الابعاد الثلاثة التي يؤيدها مسيحيو لبنان بحماس:
البعد الأول هو الجيش، وهو الأمر الذي ظل العماد عون يرمز الى انتمائه له، من خلال اطلاق لقب الجنرال عليه كإسم حركي له، وليس فقط كرتبة نالها خلال عمله العسكري.
البعد الثاني هو الدفاع عن السيادة اللبنانية، وهو أمر هام لكل اللبنانيين، ولكنه عند المسيحيين لديه حيثية إضافية.
البعد الثالث هو التمسك بالحرية، ولقد طرح عون نفسه طوال فترة غير قصيرة على أنه “مقاتل من اجل الحرية”.
كل هذه الابعاد الثلاثة تحتاج لمراجعة الآن كون عون لم يستطيع ترجمتها بشكل عملي عندما وصل الى قصر بعبدا، بل هو مارس السياسة على نحو معاكس للابعاد الثلاثة التي سار المسيحيون معه من اجلها.
.. وعليه فإن مسيحيي لبنان بعد تجربتهم مع عهد ميشال عون، الذي مثل لهم لفترة طويلة شخصية “الزعيم الحلم”، سيخرجون باستنتاج اساسي، وهو ان زمن الزعيم المسيحي الذي يمكن أن يجسد للمسيحيين “حلم القائد” انتهى؛ وأن المستقبل هو لرؤساء وليس زعماء، يحفظون عن ظهر قلب الخطوط الحمر التي لا يجب على رئيس الجمهورية الدوس عليها، كما فعل كميل شمعون في سياسته الخارجية التي تموضعت في محور إقليمي ضد آخر، الأمر الذي اغتال انجازات داخلية لعهده، ومن بعده اميل لحود الذي انهار عهده مع انهيار حليفه السوري في لبنان، واليوم مع ميشال عون..