كتب ساطع نور الدين في المدن:
التاريخ يعيد نفسه، لكنه هذه المرة لا يثير السخرية، ولا حتى القلق.
الفراغ الرئاسي، الثاني من نوعه في أقل من عشر سنوات، يمكن أن يصبح تقليداً أو عرفاً شائعاً في الجمهورية، وقد يتحول الى محطة انتقالية إلزامية بين أي رئيسين مارونيين، أو هدنة ضرورية تمثل فترة استراحة طبيعية من رئيس، يفرضها الاستعداد لإستقبال رئيس جديد، يكون في العادة نقيض سلفه، والمكلف بمحوه من الذاكرة ، وشطب إرثه من السجلات الرسمية.
لا شيء في أحكام “الديموقراطية” اللبنانية ومعاييرها، يؤكد أن الحكم إستمرار، وأن الانتخابات تناوب على السلطة. ليس هناك فسحة للانقلاب، لكن مختلف الانتخابات الرئاسية خاصة، كانت على الدوام أشبه بعمليات انقلابية مقنعة، حتى قبل ان تصبح المؤسسة العسكرية هي منبت الرؤساء، ومركز إنتاجهم الوحيد، وقبل أن تضطرب الحياة السياسية المدنية وتنهار الى هذا الحد المزري.
الآن، يبدو أن كل يوم يمر من دون رئيس، هو فرصة للجمهورية و”الجمهوريين” اللبنانيين على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، لالتقاط الانفاس والتفكير الهادىء في مراجعة التجربة الآفلة، وفي التخطيط للمرحلة الآتية، من دون أي احساس بأن الاوضاع السياسية تتردى، ومن دون أي تقدير بأن الاحوال الاقتصادية والمعيشية ستتدهور أكثر. العكس تماما هو السائد حالياً، لدى الراي العام اللبناني، الذي يشعر بالفعل أنه يمكن أن يتعايش وأن يتكيف بل وأن يستمتع بالفراغ الراهن، حتى ولو استمر لأكثر من سنتين، كما جرى بين العام 2014 و2016 ، خاصة وأن خصوم عهد الرئيس السابق ميشال عون وورثته، يبذلون جهوداً استثنائية من أجل تحسين ظروف المعيشة في البلد،(الكهرباء نموذجاً)، لكي يبرهنوا أنه وفريقه كانوا أصل الازمة وسببها الرئيسي والوحيد.
لكن الأصل كان ويبقى في مكان آخر، في النظام الذي لم يعمل يوماً بانتظام، وكان ولا يزال يسمح بمثل هذه الانقلابات الدورية المقنعة، التي قاد عون نفسه بعضها في الماضي، قبل الرئاسة وبعدها، وسلط الضوء أكثر من آخر أسلافه الاربعة على أن الجمهورية ما زالت تدفع ثمن الحرب الاهلية وتعيشها واقعاً لا يمكن إنكاره، واعاد التذكير بأن الطائفة “المؤسِسة” لتلك الجمهورية ما زالت أسيرة في مأزقها المستمر منذ عهد المتصرفية، والذي لم يفلح “القناصل” المتعاقبون على البلد، في احتوائه يوماً ولا في التخفيف من وطأته.
الجمهورية المعطلة، هي في هذه اللحظة بالتحديد، ضحية ذلك الصراع الابدي بين موارنتها، وبالذات بين أولئك الذين ما زالوا يخوضون حرب الالغاء المتواصلة منذ ثمانينات القرن الماضي، بالرموز والشخصيات نفسها، ولو اختلفت الأساليب، والذين يكافحون بضراوة على أمل ان يسدلوا الستار على الفصل الاخير، المعلق، من الحرب الاهلية، من دون ان ينسوا طبعا، المسائل الاخرى المؤجلة من تلك الحرب، تلك التي تخص علاقتهم مع المسلمين الذين يتربصون بالجمهورية، ويعتقدون ان ثمة معركة سياسية أهلية لم تندلع بعد، لكنها على وشك!
وطالما أن الفراغ الرئاسي لم يعد مشكلة، ويمكن للبلد ان يستمر ويزدهر من دون رئيس، صارت الكنيسة المارونية بالذات تلجأ الى التذكير بانه “حاكم وليس حاجباً” للجمهورية، يفترض أن تعاد المشكلة الى جذورها، على الاقل منذ أن سارت الطائفة مكرهةً الى الطائف، وحتى اليوم، الذي تبين فيه ان الدستور الحالي “القاسي” على الموارنة، لم يدفعهم الى البحث عن آليات ورموز بديلة تخرجهم من الطريق المسدود. المشكلة هنا. وهي تطرح عندما يحل موعد الانتخابات الرئاسية، حيث تستعيد الطائفة مختلف حروب الالغاء التي خاضتها في تاريخها، ولم تجد طريقة لوقفها.
العالم كله، من فرنسا الى اميركا الى الفاتيكان، مرورا بالعرب، تدخل لوقف تلك الحروب، حرصاً على ذاك الوجود المسيحي المميز في الشرق العربي، لكنه وصل منذ العام 2014 وحتى اليوم الى الاستنتاج بأنه لا أمل في الطائفة، ولا رجاء طبعا في الطوائف المسلمة.. وبالتالي لا خلاص للجمهورية، التي يبدو أنها تخضع هذه المرة ، في فترة الفراغ الحالي، لتحدي العثور على خيار سياسي جديد، لا على رمز جمهوري بديل، ينهي حقبة الانقلابات والفراغات الرئاسية المتتالية، ويضمن بقاء لبنان على قيد الحياة الطبيعية.