خاص الهديل:
٧٩ عاما هو رقم عيد الاستقلال الذي حل أمس. والاستقلال في لبنان، كان ولا زال وجهة نظر؛ فالبعض يقول ان لبنان “خطأ تاريخي”، والبعض الآخر يقول ان بلد الأرز هو “مغامرة فرنسية”، والبعض الثالث يقول ان لبنان هو “هدية السماء للشرق.”
كان يفترض ان يعتمد اللبنانيون تاريخا واحدا لبلدهم ولاستقلالهم ولنظرتهم للمستقبل. لكن ذلك لم يحدث، رغم ان البلد أعطى إنذارات عام ١٩٥٨وعام ١٩٧٥ بأنه مطلوب مبادرات “حماية وطنية” لضمان عدم تفجر البلد من داخله.
..هناك اليوم “استقلالات” في لبنان؛ وهناك “مستقلون عن لبنان”؛ وهناك “لبنانيون من دون حقوق، وليس لديهم إمكانية للقيام بالواجبات”.
وفي قصر بعبدا لا يوجد رئيس للجمهورية، وفي مجلس النواب لا يوجد ٨٤ نائبا لتأمين نصاب انتخاب فخامة الرئيس؛ وفي السرايا الكبير لا يوجد طاولة لاجتماع مجلس الوزراء.
الاستقلال رقم ٧٩ مدفون في اضرحة الرجالات الذين صنعوه، حيث يستقبلون اكاليل الورد بالمناسبة التي باتت اليمة.
والواقع ان لبنان بوضعه الحالي تائه بين ذاكرتين اثنتين: الأولى ذاكرة ال٤٣؛ وهؤلاء يعتبرون أن الطائف هو انقلاب أمني على استقلال وجمهورية ال٤٣..
.. و الثانية هي ذاكرة الطائف، والمؤمنون به يرون فيه نهاية لل٤٣ وبداية للجمهورية الثانية.
وواقع الحال يقول ان الطائف ليس بديلا عن ال٤٣، بل هو تصحيح له، او بكلام ادق هو تعديل لبعض الامور التي لم يكن لها مبرر عملي في دستور ٤٣. ولعل بطرس حرب اوضح هذه النقطة حينما قال أن “الطائف لم ينتقص من صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي، بل سحب منه الصلاحيات التي لم يكن رئيس جمهورية ال ٤٣ يمارسها او يطبقها”.. كما ان “الطائف نقل هذه الصلاحيات لمجلس الوزراء الذي نصفه مسلم ونصفه مسيحي”.
وبكل الأحوال فإن الجدل بين مريدي الطائف واصحاب الحنين لصيغة ال ٤٣، لن ينتهي بتوضيح من هنا، ورأي من هناك؛ كون أزمة البلد الراهنة تجعل كل الامور مطروحة ليس فقط للنقاش، وللتشكيك بها، بل ايضا لتعمد التشكيك بها.
ويبدو انه ضمن ما هو مرئي من مواقف، فإن لبنان يحتاج ، من جهة ، للطائف كونه بالحد الادنى كان “هدنة كبيرة” بين اللبنانيين الذين لا يزال هناك حاجة لاستمرار تثبيت الهدنة بينهم ، وهو يحتاج من حهة ثانية لروحية ميثاق ال ٤٣ لأنه كان “تسوية كبيرة” بين اللبنانيين الذين لا يزال هناك حاجة لتثبيت وترشيد قواعدها الميثاقية بينهم.
ثمة حاجة لدمج “موجبات الهدنة الكبيرة” (الطائف) مع “موجبات التسوية الكبيرة” (ال٤٣) ، ليصبح الاستقلال في لبنان، ليس رقما تسلسليا، وليس محطة لوضع الاكاليل على اضرجة من صنعوه والذين تم دفن الاستقلال معهم، بل ليصبح فعلا ناجزا ومعاشا على أرض الواقع ..
إن مشكلة الطائف تكمن اولا في انه لم يطبق كاملا؛ بل تم تطبيقه استنسابيا؛ ولذلك ظهر الطائف اقله حتى العام ٢٠٠٥، وكأنه اتفاق أمني، يتم تنفيذه من قبل الجهة التي كان لها الغلبة في الحرب. وعليه فإن روح الطائف لم تطبق؛ بل ما طبق منه هو الجزء الخاص بالهدنة ذات الصلة بوقف الحرب، وانهاء تعبيراتها الميدانية وليست السياسية. ومن هنا تم انشاء وزارة للمهجرين لدفع تعويضات وليس لمعالجة اسباب التهجير .. واغلب الظن سيظل الطائف اتفاقا يغلب عليه الطابع الأمني (الهدنة) طالما انه لم يطبق كاملا وظل تطبيقه استنسابيا.
وما تقدم يفيد بأن البلد عبارة عن معسكرين: الأول يحمل ذاكرة الطائف الامنية، ولم تصل اليه روح ميثاقية ال٤٣؛ ففهمها على انها محاصصة داخل “ميدان هدنة الطائف” الذي طبق بوصفه “حربا باردة” أو “سلما ساخنا “.. اما المعسكر الثاني؛ فهو يحمل ذاكرة ال٤٣ الطائفية لالغائية (المارونية السياسية)، ولم تصل اليه روح دستور الطائف الذي نقل من دستور ال٤٣، صلاحيات لم يكن هناك إمكانية لرئيس الجمهورية ان يطبقها، إلى مجلس الوزراء مجتمعا المؤلف مناصفة من المسيحيين و المسلمين، والذي دعا لانشاء مجلس شيوخ وإلغاء الطائفية السياسية، الخ..
وهكذا يبدو ان جزء من خلفيات الازمة اللبنانية اليوم هو ضياع البصيرة بشأن طبيعة نظام الحكم الذي سيعيد تسوية انتظام الحياة العامة، وانتظام العلاقات البينية الطائفية على اساس تسوية سياسية وطنية يرعاها الدستور ..