الحياة ليست دائماً عادلة بالنسبة للجميع، لا سيّما مَن لا ضهر له أو سند، في زمن أصبح الأوكسيجين فيه مكلفاً، لتُصبح “الدعارة” سبيلاً للبعض لكسب المال والنفوذ معاً… وهذه حكاية “سيسي”.
“لستُ سعيدة وألعن نفسي ألف مرّة كلّ يوم، ولكنني لستُ ضعيفة ولن أكون”، هكذا وصفت سيسي، إحدى بائعات الهوى في منطقة المعاملتين حياتها بعدما نزحت من سوريا هرباً من الحرب، على أمل أن تجد في لبنان الملاذ الآمن لها بعد سنوات من القصف والتنقل والاعتقال في صفوف تنظيم “داعش”.
بدأت حكاية “سيسي” في سوريا، تحديداً في ربيع ٢٠١٨، عندما تعرّضت للاغتصاب الجماعيّ من قبل مجموعة من عناصر “داعش” بعد خطفها، لتبقى رهينة لديهم نحو السنة، عاشت خلالها أصعب وأقسى أيّامها، في حين لم يكن ذنبها سوى أنها خرجت من عملها في وقت متأخر بعد مغيب الشمس، فكانت تلك الحادثة التي اعتبرها التنظيم حينها جريمة كبرى وعار، بداية لمسلسل من العنف ضدّها حملت كل حلقة من حلقاته الطويلة صنوفاً جديدة من العذاب والألم.
رحلة عذاب من سوريا إلى لبنان
“ارتكبتُ خطأً بخروجي متأخرةً من العمل، ولا زلتُ أدفع الثمن حتّى اللحظة”، تشرح السيّدة الثلاثينيّة في سياق حديثها أنّها “لم تقصد إثارة غضب التنظيم في منطقتها، أو حتّى عصيانهم، ولكن شاء القدر أن تقع تحت يد خالد، وهو أحد المقاتلين الذي اعترض طريقها في اليوم المشؤوم وتعرّض لها جنسياً وأجبرها على مجامعة رفاقه عنوةً، ومن ثمّ أخذوها رهينة عندهم، حيث كانت تعمل في حياكة الملابس والتطريز لصالح “داعش” صباحاً، وتُغتصب ليلاً تحت مسمّى الشريعة.
بعد مرور سنة، وفي أول فرصة أتتها، هربت “سيسي” من جحيم التنظيم نحو حياة أصعب لم تكن تتوقعها، حينها لم تكن تملك المال ولا صلة لها بأيّ أحد هنا، إلى حين تعرّفها على المدعو “ش.ج” عن طريق الصدفة، أحد أصحاب الملاهي غير الشرعية في جونية، الذي عرض عليها العمل في مجال “الدعارة” مقابل حصولها على ٤٠ في المئة من الأتعاب.
“قبلتُ عرضه مجبرة، بعدما بقيت نحو الشهر ونصف الشهر أنام في مداخل المباني وأسرق الخضار والماء من الدكاكين المجاورة لأشبع بطني. رضختُ لواقعي المذلّ والمقرف دون إرادتي. وأنا على يقين بأن عائلتي لن تغفر لي، ولا حتّى المجتمع، فلستُ بنظرهم سوى بائعة الهوى الرخيصة، التي يشتريها الرجال والنساء بالدولار الفريش مقابل ساعة واحدة، ولكني أؤكّد لكم أنّني لست ملاكاً ولكن ليس لكم الحقّ برشقي بالكلمات المؤذيّة والاتهامات الباطلة فيما بيوتكم الزجاجية تعكس ما بداخل نواياكم”، تقول “سيسي”.
من الاغتصاب تحت تهديد السلاح إلى ممارسة “الدعارة”، تروي السيّدة، سوريّة الأصل، تفاصيل “الديل” الذي عقدتها مع مشغلّها مقابل غرفة بسرير تنام فيها ليلاً بعد انتهاء عملها عوضاً عن تشرّدها على الطرق. “أتقاضى من الزبون مليون ليرة مقابل الساعة الواحدة، وإذا كان ميسوراً، أطلب منه مليونَين، طبعاً هذا المبلغ ليس تحت تصرّفي بالكامل، إذ يحقّ لي منه ٤٠ في المئة فقط وفقاً للإتفاق مع صاحب الملهى، وعادةً ما أخرج مع ١٢ زبوناً يومياً، في حين لا يقتصر زبائني علي الرجال فقط، بل النساء أيضاً، وهنا الصدمة، بحيث لم أكن معتادة على هذا الكمّ من القرف والانحراف، إذ أتيت من مجتمع منغلق لم يكن مسموحاً لي فيه الخروج دون نقاب حتّى، فكيف وصل الحال بي إلى هذا الدرك؟… سؤال أطرحه على نفسي يومياً، ولا أجد إجابة له، أو ربما أخشى ذلك”.
خدمات جنسيّة واستشارات عائليّة برعاية “سيسي”!
إن عمل “سيسي” لم يقتصر فقط على تقديمها الخدمات الجنسيّة المعتادة للزبائن، إذ تُشير في حديثها إلى أن “بعضهم يأتيها بهدف الاستشارة العائلية نتيجة خلاف قائم بينه وزوجته أو خطيبته، وآخر يطلب منها “الطبطبة” له والغناء أحياناً أو الرقص، ثمّ يخرج من الغرفة دون لمسها حتّى، في حين أن الرأس المدبر لا يتدخل في عملها طالما الزبون “عاجبو الجو وعم يكبّ مصاري”!
“الدعارة”: المهنة الأقدم في لبنان والأكثر ربحاً اليوم
تاريخياً، تُعرف “الدعارة” بأنّها المهنة الأقدم في لبنان، إلّا أن الكثير من المنظمات الحقوقيّة ترفض هذا التوصيف نظراً لأنّه يُقلّل من قيمة الفرد عموماً والمرأة على وجه التحديد في حين أن مافيات الإتجار بالبشر تتعامل معها وكأنّها سلعة تُباع مقابل مبلغ زهيد من المال. ولكن فعلياً، ووفقاً لأحد المحلّلين الاقتصاديين الذي فضل عدم الكشف عن اسمه لحساسيّة الموضوع فإن “الدعارة” تُعدّ اليوم من أكثر المهن ربحاً لا سيّما خلال فترة الحجر وكورونا، حيث واجهت العديد من المهن تراجعاً ملحوظاً بالمدخول، على عكسها تماماً، إذ سجلت ارتفاعاً فاق الـ٦٠ في المئة وفقاً للإحصائيات، إضافة إلى أن هذا القطاع يدرّ لوحده أكثر من مليون دولار في السنة”.
هل الدعارة مشرّعة لبنانياً؟
يؤكّد المحامي علي منصور أن “الدعارة ليست مشرّعة لبنانياً خلافاً للمعلومات المضلّلة التي ينشرها البعض دون الرجوع إلى النصوص القانونيّة الواضحة في مضمونها والتي تنصّ على أنّ كلّ من يُمارس هذه المهنة يخضع للعقاب والمحاسبة بناءً على إشارة القضاء المختصّ، وبالتالي فإن الرخصة التي تُعطى للملاهي والنوادي المعروفة بـ”السوبر نايت كلوب” لا تعني سماح السلطات أو القانون بممارسة الدعارة في هذا المكان، بل أنّها تشمل السماح لعروض معيّنة ضمن النطاق المحدّد له لا أكثر ولا أقل”.
هذا ويلفت المحامي إلى أنه في العام 1931 صدر قانون “حفظ الصحة العامة للبغاء” الذي أُجيز بموجبه للمحافظين إعطاء تراخيص لفتح بيوت الدعارة، غير أن هذا القانون بات بحكم الملغى بعد 12 سنة على صدوره”، مشدّداً على أن “العقوبات تطال كل فاعل وشريك ومحرّض ومسّهل لهذه العملية من بدايتها الى نهايتها وصولاً للزبون”.