خاص الهديل:
جلسة مجلس الوزراء التي جرت أمس ستدخل مجلد ذاكرة العلاقات المسيحية الإسلامية بوصفها حدث تم فيها من قبل كل المسلمين بغض النظر عن موقفهم من العونية المسيحية السياسية، كسر إرادة المسيحيين وتجاوز الميثاقية والاستكبار عليها.
هذه الصورة هي بشكل ما نجح باسيل أمس في تسليط الضوء عليها، بغض النظر عن حقيقة النوايا التي يكنها الذين طالبوا بعقد جلسة الحكومة وبينهم مسيحيون.
…ومرة أخرى يتبين بمناسبة ما جرى في الجلسة الحكومية وحولها وقبلها وبعدها، أن ذاكرة الصراع الطائفي في لبنان هي الأقوى من ذاكرة التحالفات والسلم الأهلي الذي غالباً ما يكون ساخناً أو مسلحاً بمدافع سياسية أو فكرية وثقافية.
وعليه ولهذا السبب لا يعود ينفع لإزالة البصمة الطائفية وتهمة استهداف الميثاقية عن جلسة أمس الحكومية، أن وزراء مسيحيين شاركوا فيها، لأن حقد الصراع الأعمى عند كل الأطراف، قادر على تحويل الوزراء المشاركين المسيحيين في الجلسة الى أشخاص سيتم نزع إيمانهم المسيحي عنهم، بتهمة “التجديف” بالمشاركة في جلسة الشر الحكومية، وسيصبح جو بوكشيان هو يهودا الاسخريوطي، وسيصبح باسيل المتهم بالفساد هو “المعلم” الذي يسير على درب الجلجة وفوق كتفيه صليبه، وذلك بعد أن انار للمسيحيين الطريق!!.
وهذه الصورة لمشهد جلسة أمس الحكومية كان يمكن عدم السماح لها بأن تترك هذه الانطباعات المعيبة والخطرة عنها، وأن لا يسمح لها لأسباب واهية أن تشوه أكثر ذاكرة العلاقات المسيحية الإسلامية في وطن الرسالة(!!)؛ وذلك لو أن باسيل “تعقل” وطنياً، ولم يأخذ مشهد معارضته لهذه الجلسة إلى مربع افتعال كسر الجرة الميثاقية، ولو ان حلفاء عون المسلمين بحثوا عن مخرج لا يتحدى المسيحيين ولو حسب ادعاء باسيل، ولا يترك مرضى الكلى والسرطان يموتون في المستشفيات؛ علماً أنه في كل يوم يموت مرضى أمام أبواب المستشفيات، ويطلق مواطن جائع النار على رأسه في مشهد علني، وفتحت أضواء نصاب كامل من الاعلام ..
الأمر الغريب انه لم تحدث تسوية أو محاولة لابرام تسوية؛ رغم أن ثلاثة أرباع حياة أحزاب الطوائف هي تسويات على تعيين مأموري الأحراش وصولاً إلى انتخاب رئيس للجمهورية.. وهذا الأمر يقول لنا أنه لا أحد كان لديه مصلحة في ابرام تسوية حول جلسة الحكومة أمس، وأن الجميع كان بحاجة لهذا الخلاف الذي يجعل جماهير الطوائف الجائعة تعود للنظر الى زعمائها الذين يقاتلون من أجل “حقوقها الورقية الدستورية” بعد ان فتكوا بأموالها وقوتها ..
…لا القيمون على الحكومة كانوا يريدون تسوية لأنهم يعتقدون ان تسوية في هذا الوقت مع باسيل، ستعيد تدوير زوايا التوازن لصالحه؛ فيما هم يريدون بعد خروج عمه من القصر الجمهوري، اخراجه من حلبة الملاكمة السياسية بالكامل.
…ولا حزب الله كان يريد تسوية، وذلك لأن الحزب وسط كل أسباب علاقته المعروفة مع باسيل، يبقى هناك سبب مجهول هو الذي وقف وراء موقف حارة حريك من المشاركة في جلسة أمس الحكومية ضد رغبة حليفه باسيل الذي كان نصر الله ساهم بجهد ربع معركته الانتخابية النيابية.
…ولا باسيل، وهذا هو الأهم، كان يريد تسوية لأنه يعتبر نفسه أنه سيخرج بكل الأحوال منتصراً من هذه المعركة: فهو سينتصر في حال عقدت الجلسة كونه سيصبح زعيم المظلومية الميثاقية المسيحية، وهو كان سيخرج أيضاً منتصراً لو نجح في منع عقد جلسة الحكومة، لأنه سيصبح بطلاً فرض حقوق المسيحيين داخل نظام الطائف “الشرير” حسب وصفه وراء الكواليس العونية.
إن معركة باسيل ضد جلسة الحكومة كان يحتاجها حتى يقول للداخل وللخارج أنه أولاً لا يزال موجوداً ولا يمكن إلغاء دوره المسيحي، وأن عدته السياسية التي استخدمها وأنتجت سلطة له لا تزال موجودة، وهي قادرة على أن تعيد إنتاج سلطته داخل المجتمع المسيحي.. وكأن باسيل يريد القول للحلفاء قبل الخصوم، أنه يملك ترسانة صواريخ دقيقة من الشعارات المسيحية بمقابل ما يملكه الآخرون في ترساناتهم من وسائل القوة الفائضة والتقليدية. وثانياً أراد باسيل عبر هذه المعركة أن يكمل ما يعتبره شعاره وهو استرداد حقوق المسيحيين، وهو يريد القول من معركة الجلسة الحكومية القول للمسيحي أنه كان محقاً بالأمس واليوم وغداً، فيما طرحه من أهداف مسيحية يجب تحقيقها، ويحب فرضها على “اجتماع الطائف” قبل فرضها على “ورق دستور الطائف”.
…حتى نفهم موقف باسيل يجب الاشارة الى ان الزعامة المسيحية في لبنان، تتعزز تاريخياً من خلال أسلوبين اثنين: إما إسباغ المظلومية على نفسها فتصبح بطولة فردية في زمن الكارثة، كميشال عون؛ وإما إطلاق الفكرة الجديدة في زمن التقليد الفاسد، فتصبح إصلاحية رشيدة في وقت الفساد، كفؤاد شهاب.
وواضح أن جبران باسيل هو في لحظة الكارثة، وأن النموذج الذي يناسبه هو لعب دور البطولة في زمن كارثته التي يريد تعميمها لتصبح كارثة مسيحية، وليصبح دوره داخلها يبدو كبطولة فردية في زمن الكارثة المسيحية.
هل نجح جبران باسيل أم أن المسيحيين سيعتبرون أنفسهم أنهم أصبحوا محصنين ضد استغلاله لشعاراتهم حتى يحقق شعاره الذي له كلمة مشفرة تعبر عنه، وهي “جبران باسيل الصهر…”