الهديل

الساحرة المستديرة

 

بقلم شيخة غانم الكبيسي

حرصت في الأيام السابقة على زيارة أغلب الأماكن التي تقام بها الفعاليات المصاحبة لكأس العالم لأستمتع بالأجواء المونديالية النادرة حيث تزينت الشوارع بأعلام 32 دولة مشاركة في نهائيات كأس العالم 2022 فأضيئت السماء بالألعاب النارية والليزر كل مساء، وازدانت الربوع والشوارع وجميع المباني والأبراج وصُفت الشاشات الضخمة في كل الزوايا لمشاهدة المباريات، في نقل مباشر لمهرجان فني متنوع بين الغناء والفنون والمسرح والفنون الشعبية والفلكلورية فيها ألوان من ثقافات الشعوب المتنوعة، انطلاقاً من المحلي الموروث القطري والخليجي محمولة على بعد إنساني ثقافي شامل وواسع، حتى باتت مناطق الدوحة وضواحيها تشكل كرنفالا يوميا يجمع مختلف الجنسيات من كل بقاع الأرض.

ولا أنكر مشاعر الارتياح التي غمرتني بمشاهدة الحضور والجماهير الذي بلغ عددهم رقماً قياسياً وقد توافدوا من كل دول العالم وهم يجوبون شوارع الدوحة مبتسمين وكأن هناك هالة ضخمة تجمع الجميع في بوتقتها.

تأملت الوجوه بحثاً عن سبب هذه الطاقة الجميلة التي انتشرت في شوارع الدوحة واحيائها بمرافقها الخاصة والعامة، فالجميع منشرح الاسارير ومتقبل للآخر وان كان غريمه، تختلط الضحكات بين الكبار والصغار وتعابير السعادة تنطق بها العيون مع تلاقي رقصتي العرضة والسامبا في مشهد لافت لتبادل الثقافات.

هل هذا الشعور الجميل مصدره الأمن والأمان الذي يتأصل في هذه البقعة الأرضية؟

أم أنه راحة بال ونسيان للقلق والتوتر؟ ام هو الفخر والاعتزاز الذي يحيط بكل المتواجدين تحت سماء شبه الجزيرة القطرية؟

وقد يكون بسبب الإجراءات والوسائل المريحة التي تم توفيرها لجميع عشاق كرة القدم القادمين من كل أنحاء المعمورة؟

أو لكونها الانطلاقة العالمية الأولى للساحرة المستديرة على أرض عربية؟

وما اضفت عليه هذه الاستضافة من روح عربية اصيلة جديدة لم يكن له عهدٌ مسبق، فهذه اللعبة التي تُلعب في كل مكان، في كل قرية ومدينة، في كل بلد، في كل قارة. سواءً أحببتها أو عزفت عنها، تظل كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية على هذا الكوكب. إنها نموذج مصغَّر لعالمنا فهي تجسّد القيم الاجتماعية وتعكس المحاسن والمساوئ، والتحديات والنجاحات، والصراعات والانتصارات، والمكاسب والخسارات، وتبرز الأصالة والحداثة على حد سواء.

كما عززت التغطية الإعلامية للعبة هذه المشاعر الإنسانية، وأضفت عليها هالةً من العولمة. فسلبت العقل والفؤاد وسحرت الوجدان وبات أمر مشاهدتها متعة تنشدها كل الاعمار، حيث تعتبر كرة القدم هي الرياضة المحبوبة بسبب عدم القدرة على التنبؤ بنتائجها والطرق التي يتفاعل بها المشجعون مع فريقهم سواء كان ابتهاج ونشوة بالفوز أو النصر أو الحزن الذي يأتي مع الخسارة.

لا يهم إذا كنت من المعجبين الذين يدعمون فريقًا موطنه يبتعد الاف الاميال، أو مشجعًا نشأ على بعد شارعين من الملعب، فالجميع يتفاعلون عندما يتعلق الأمر بحب ناديهم أو فريقهم.

ولكن رغم تعصب المشجعين في شتى اقطار العالم إلا ان ذلك لم اشاهده في المدرجات أو التجمعات المخصصة للجمهور، بل على النقيض من ذلك ساد الوئام بين الجميع وتم تبادل القمصان لإضفاء نوع من التمازج العالمي فلم يكن سهلاً التمييز بين الجنسيات حيث اختلط الحابل بالنابل. وفي صورة جميلة أخرى كان الجمهور الخاسر يودع احزانه على المدرجات تمهيداً للدخول في الطاقة الجميلة المنتشرة بالممرات والساحات.

انها مشاعر السعادة التي غمرت القلوب بفعل هذه الساحرة التي حركت الجمود بداخلنا لتقودنا للعالمية، في حداثة متأصلة فريدة. لنثبت للعالم بأننا مجتمع متناغم ومنسجم مع الثقافات الأخرى ونفسح المضمار لتقاليد الشعوب ولكن هذه المرة كانت النتيجة معاكسة حين فعلت كل الإنجازات التي قامت بها قطر فعلها في الجماهير الوافدة للدوحة، ليصعد بقوة الزي العربي “الغترة والعقال” وبالألوان كافة حيث بات هذا الزي حاضرًا بين المشجعين، لتصل ذروة هذه الحالة إلى أن تتصدر مشاهد قيام المواطنين القطريين ورجال الأمن كذلك بتعليم المشجعين كيفية ارتدائها.

نعم انها الساحرة التي كسرت الحواجز وقلبت الموازين، فبعد ان كانت السياسة تستخدمها كقوة ناعمة لتحقيق مآربها باتت هي المسيطرة، فاصلة عنها كل السياسات لتحطم العداوات وتنهي الفروقات وتعيد العلاقات في لوحة فنية تتوحد بها الشعوب معلنة بأن دولة قطر كانت وما زالت وستظل تزهو بثوبها القشيب.

 

 

Exit mobile version