كتب سعد الياس في “القدس العربي”:
في وقت باتت جلسات انتخاب رئيس الجمهورية مملّة ومؤجلة إلى السنة الجديدة، فقد طغى الحادث الخطير الذي تعرّضت له مركبة تابعة لقوات «اليونيفيل» في جنوب لبنان وأدّى إلى مصرع أحد الجنود الإيرلنديين وإصابة 3 آخرين على الملفات السياسية العالقة في البلاد ومن بينها موضوع السجال الدائر حول جلسة مجلس الوزراء التي عقدها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بمعزل عن موافقة التيار الوطني الحر ومقاطعة ثمانية وزراء من أعضاء حكومته.
وهذا الاعتداء على يد «الأهالي» الذين يختبئ وراءهم حزب الله هو الأول بهذا الحجم بعد تعديل مهمة القوات الدولية في شهر آب الفائت بما يتيح لدوريات اليونيفيل بالتحرك في منطقة عملياتها من دون إذن مسبق ومن دون مواكبة من الجيش اللبناني، الأمر الذي اعترض عليه حزب الله واعتبر أنه يحوّل هذه القوات إلى «قوة احتلال».
وباستثناء الموقف المتقدم لوزير الداخلية بسام المولوي الذي لم يلجأ إلى التورية ولم يخفّف من أهمية «الاعتداء غير العرَضي» والرافض أي «قبول بشرعيتين أو بنصف دولة» جاءت ردود الفعل الرسمية على الحادث باهتة، حتى أن الرئيس ميقاتي أسف للحادث ولم يضمّن موقفه «إدانة» وحرص في خلال تأكيده على احترام القرار 1701 على الرد الضمني على نظيره الإيرلندي مايكل مارتن الذي اعتبر أن قواته تعمل في «بيئة عدائية وصعبة» فوصف ميقاتي هذه البيئة بأنها «طيّبة» خلافاً لما تضمره البيئة الحاضنة للمقاومة والذي عبّر عنه الشيخ صادق النابلسي المقرّب من حزب الله باتهامه بعض الدول المشاركة في قوات اليونيفيل بأنها «تعمل وكيل أمن لإسرائيل وهم يعرفون الطرق والزواريب في لبنان كما يعرفون أبناءهم» مضيفاً «لم يكونوا في هذا المكان تائهين ولم يكن غرضهم الخروج إلى شارع مونو لاحتساء الكحول».
وانطلاقاً من نظرة الشيخ النابلسي ومَن يمثّل إلى قوات «اليونيفيل» يرى متابعون أنه يمكن قراءة الرسائل الداخلية والخارجية التي أراد «الأهالي» توجيهها إلى مَن يعنيهم الأمر على الرغم من مسارعة حزب الله من خلال مسؤول الارتباط والتنسيق وفيق صفا على التنصّل من الحادث ودعوته إلى عدم إقحام الحزب فيه.
فالرسالة الداخلية تفيد أن حزب الله المُمسِك بالأرض في الجنوب لن يسمح بتغيير قواعد الاشتباك كما ورد في القرار الدولي الأخير، وعلى «اليونيفيل» التقيّد بالمسارات المرسومة لها تحت طائلة اعتراضها ولو بإطلاق النار إن تجرّأت وخرجت عن الخطوط الحمر. أما التوقيت فليس بعيداً عن محاولة تحويل الأنظار عما يجري من احتجاجات شعبية في إيران ومن استخدام أساليب القمع للقضاء على هذه الاحتجاجات بما فيها اللجوء إلى الإعدام.
والرسالة الخارجية هي إيرانية ولها وجهان: الأول الرد على الأمم المتحدة برسالة دموية من جنوب لبنان على إلغاء عضويتها من لجنة المرأة في الأمم المتحدة. والثاني القول إن طهران قادرة على تحريك أذرعها في العواصم العربية وهزّ الاستقرار رداً على الضغوط الدولية التي تتعرّض لها ومن بينها العقوبات وتعليق الاتفاق النووي، وليس أسهل من استخدام الساحة اللبنانية الرخوة حيث يمتلك حزب الله القدرة وفائض القوة على توجيه الرسائل سواء عبر التفجيرات أو الاغتيالات أو تعطيل الاستحقاقات الدستورية وفي طليعتها انتخابات رئاسة الجمهورية.
وتأتي هذه الرسائل بعد وضع إسرائيل مطار بيروت الدولي تحت المجهر واتهامها إيران بنقل الأسلحة لحزب الله عبر شركة طيران إيرانية وإعلانها عن قصف طيرانها الحربي قافلة أسلحة على الحدود السورية العراقية معطّلة مشروعاً إيرانياً لوضع مئات صواريخ أرض جو في سوريا ولبنان، وذلك بالتزامن مع كشف وثيقة سرية لشركة «لويدز مارين» للتأمين ومقرها لندن عن تهريب إيران للذهب الفنزويلي لتمويل الحزب. وهكذا، في الوقت الذي تسعى فيه قوى سيادية لاستعادة هيبة الدولة وانتظام الحياة الدستورية من خلال انتخاب رئيس للجمهورية، تأتي الحادثة في الجنوب لتؤشر إلى أن حزب الله ما زال يواصل دوره الإقليمي على حساب مصلحة لبنان ولو هدّد هذا الدور أمن اللبنانيين واستقرارهم واقتصادهم وأدى إلى مزيد من الانهيار.
كل هذه المعطيات تعطي قوة دفع لموقف البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي دعا صراحة إلى حياد لبنان، وطالب الأمم المتحدة بعقد مؤتمر خاص بلبنان يجدّد ضمان الكيان وهويته وتعدديته، مشدداً في أكثر من موقف على انتخاب رئيس لاستعادة الاستقلال وينقذ لبنان وعدم الاستخفاف باختيارِ رئيسِ الجمهوريةِ المقبِل لأن أي خيار سيّء يُدهور لبنان.
يبقى أن ما حدث في الجنوب سيكون عِبرة جديدة لقيام الدولة وقدرتها على بسط سيطرتها وهيبتها على كامل أراضيها واحترامها الفعلي لمندرجات القرار الدولي الرقم 1701 من خلال عدم السماح بتمييع التحقيق في جريمة مقتل الجندي الإيرلندي وتوقيف المرتكبين وعدم تجهيل الفاعلين إسوة بكل الجرائم والاغتيالات التي وقعت منذ محاولة اغتيال الوزير والنائب مروان حمادة مروراً بإغتيال الرئيس رفيق الحريري وسائر شهداء 14 آذار وصولاً إلى المعارض الشيعي لقمان سليم وقبله الرائد الطيّار في الجيش اللبناني سامر حنا الذي لم يمض قاتله في السجن سوى أشهر قليلة قبل إطلاق سراحه. ولعلّ الخطوة الأبرز التي يمكن للحكومة القيام بها هي التمثّل بموقف وزير الداخلية وعقد جلسة طارئة لمجلس الوزراء لاتخاذ القرارات والإجراءات اللازمة للحفاظ على أمن الجنوب والمطار في هذه المرحلة الدقيقة بما يطمئن اللبنانيين من جهة ومن جهة أخرى الدول المشاركة في قوات «اليونيفيل» إلى أن جنودها لن يكونوا فريسة للبيئة الحاضنة ولئلا تُتخذ أي قرارات بسحب هذه القوات وتوفير المبالغ المالية التي تُصرَف على ميزانية هذه القوات ولاسيما بعد ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.