الهديل

الدكتور حمد الكواري: يكتب عن مونديال قطر

المقال الأول

الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري وزير دولة بدرجة نائب رئيس وزراء، رئيس مكتبة قطر الوطنية، يكتب عن مونديال قطر، فيؤرخ لهذا الحدث الكبير من زواياه المختلفة بأسلوب رشيق فيه من الموضوعية والعلمية ومشاعر اللحظة القطرية الهامة، ما يجعل نصه بمثابة شهادة هامة على مونديال قطر…

فيما يلي نص المقال الأول من سلسلة مقالات الدكتور حمد الكواري في جريدة الشرق القطرية:

كأس العالم فرصة سانحة للّعب (1)

لم تكن لي صلة وثيقة بكرة القدم، وحتّى في طفولتي لم أمارس هذه اللعبة الأكثر شعبيّة في العالم، كنتُ مشغولاً بالثقافة وسجالات الفكر بين المثقفين وبصراع المدارس الفكريّة العربيّة والغربيّة أكثر من اهتمامي بالبطولات الرياضيّة المحلية أو الدوليّة، ربّما أردُّ ذلك إلى طبيعة مسارات حياتي، حيثُ عشت خارج بلادي كتلميذ وكسفير أكثر من 25 عاماً متواصلة، فلم تتح لي فرصة المتابعة الدائمة لهذه الرياضة محلياً، وحتّى دوليّاً ظلّت علاقتي بكرة القدم موسميّة، تقتصر على متابعة المونديال كلّ أربع سنوات، وهي متابعة بعيدة عن الإدمان، كنتُ متيقّظاً لذلك التخوّف الذي عبّر عنه المفكّر الإيطالي إمبرتو إيكو من بعض تبعات كرة القدم على الأفراد والمجتمعات حين يسيطر عليها رأس المال دون مبالاة بالمؤثّرات الثقافيّة اللاحقة وبالمتغيرات السلوكيّة التي تفرزها، وكنتُ أُعجب بتوصيفه المازح لصلته بهذه اللعبة ” ليست لديَّ ضغينة ضد كرة القدم، أما الأسباب التي تدفعني إلى عدم الذهاب إلى الملاعب، فهي ذات الأسباب التي تجعلني لا أقدم على النوم في دهاليز محطة القطار بميلانو”، ولا يعني ذلك أنني لم أكن أتابع بمتعة كبيرة مجريات بعض المباريات، فلا أحد منّا يُنكرُ سحرَ اللعبة وقدرتها على امتلاك انتباهنا واختلاس وقتنا ومُصادرة تركيزنا لفترات متفاوتة.

أعلم أنّها لعبة “خِلافيّة” لدى المثقّفين والكتّاب، بعضهم يرفض الانغماس في متابعتها وبعضهم جرّبها قبلَ أن يمدحها، حتّى أنّ بعضاً من الحائزين على جائزة نوبل للآداب استهوته كرة القدم في حياته فتعلّق بها لاعباً ومشجّعاً، ومن بينهم الكاتب الكولومبي غابريال ماركيز الذي كان ينتمي إلى فريق جونيرو الكولومبي، ونجيب محفوظ الذي غادر اللعب إلى الأدب، وألبير كامو الذي منعه المرض من الاستمرار في ممارسة اللعبة بعد أن كان حارس مرمى فريق كرة القدم بجامعة الجزائر، كثيرونَ مَن استهوتهم كرة القدم ووظّفوها في رواياتهم وأشعارهم، ألم يقل محمود درويش، مستحضراً أيقونة كرة القدم اللاعب الأرجنتيني مارادونا:”مارادونا، يا بطلي إلى أين نذهب هذا المساء؟”، ومع ذلك بقيتُ لسنوات في مكان المتفرّج الموسمي، دون أن أتوقّف طويلاً عند هذه اللعبة كظاهرة ثقافيّة عالميّة وليست حدثاً رياضيّاً فحسب.

لكنَّ حصول بلادي على استحقاق كأس العالم 2022 منذ 12 عاماً خلق حالة خاصة لي تجاوزت الاهتمام بكرة القدم إلى ما هو أهم. كنتُ أتابع استعدادات تنظيم هذا الحدث عن كثبٍ، من بناء الملاعب بشكل يتناسب مع أعلى درجات الاستدامة، وإقامة الحدائق واستحداث خطوط المترو، وتوظيف الطاقة الشمسيّة، وإنشاء بنية تحتيّة معاصرة من الطرقات الفسيحة والجسور الممتدّة والعملاقة، وتطوير مطار حمد الدولي وميناء الدوحة وغيرها من الإنجازات التي حوّل تنفيذها بلدنا إلى ورشة عمل متواصل على امتداد سنوات، كنّا جميعاً نعيش على وقعها وننظر إلى أفق موعد المونديال ونهمس في داخلنا، هل نستطيع حقّاً الإيفاء بكلّ هذه الالتزامات من أجل تقديم نسخة استثنائيّة من كأس العالم؟

من سنة إلى أخرى، أصبحتُ منشغلاً بالمونديال، حيثُ تحوّل إلى واحد من أكبر التَّحديات التي تواجهها قطر، وأدركتُ مداه العربي، وهو ما زاد من حجم المسؤوليّة على عاتق القيادة والمتدخّلين في كلّ مجالات تحقيق هذا الوعد. لم تكن صورة قطر في الميزان فحسب بل صورة كافّة العرب، ذلك ما أدركه الجميع منذ البداية، فاتسع حجم الهدف، ليكون تنظيم قطر لكأس العالم مرآة للعرب جميعاً، وبوّابة دخولهم من جديد إلى فعل الإسهام الحضاري، ولا أخفي ما كنتُ أشعر به من حماسة في أن يتحوّل كأس العالم إلى لحظة استئناف الحضارة العربيّة لمجدها. ورغم ما مرّت به قطر من ظروف صعبة في الأثناء وما واجهته من تحديات في فترة جائحة كورونا، فقد كانت الإرادة أقوى من كلّ تلك الظروف، وكنّا نشاهد ذلك السباق العمراني مع الزّمن، فملحمة التشييد شبيهة بمتابعة مباراة نهائي لكرة القدم. لقد سخّرت قطر الموارد المادية والإنسانيّة اللازمة، وعمِل فريق العمل وكلّ الجنود المجهولين وأبلوا العزيمة والمثابرة من أجل إحراز النجاح المنتظر، بثقة من يؤمن برسالة، نعم كانت مُجريات الاستعدادات تدلّ على أنّ كل القائمين عليها بصدد بذل الجهد من أجل رسالة نبيلة، ولم تكن تلك الرسالة محدودة في أفق إثبات جدارة تنظيم كأس العالم بشكل يتوافق مع ما تمّ تقديمه في ملفّ الترشّح لنيل تنظيمه عام 2010، كانت الرسالة أبعد من ذلك الوعد العملي، لقد طالت آفاقاً أخرى لم تكن في حسبان الكثيرين من المتابعين وقتها، فالقيادة السياسيّة الرشيدة في تلك اللحظة التاريخيّة لم تسعد فقط لفوز الملفّ، وحصده لأكثر أصوات التأييد، أمام منافسين أقوياء، مثل الولايات المتّحدة الأمريكية الدولة العظمى وأستراليا الدولة القارّة، بل كانت تُدرك أنّ كأس العالم ستكون بمثابة بداية جديدة لقطر ولمنطقة الشرق الأوسط وللعرب جميعاً.

من منّا قُبيلَ انطلاق المونديال بأيّام لم يشعر بأنّه يعيش على وقع المفاجآت من حين لآخر كلّما مرّ من طرق اعتاد عبورها، فتغيّرت أمامه السبل، أو ارتاد مناطق خبرها في السابق فتغيّرت ملامحها، أو باغتته معالم جديدة في غاية الجمال وقد وُلدت من رحم الأفكار العظيمة! صرنا نكتشف بلدنا من جديد كلّما اقتربت صافرة انطلاق البطولة، أليس ذلك الاكتشاف عاملاً من عوامل تجديد الحياة وبثّ النّخوة؟ ألم يكن الإنسان العربي بحاجة ماسة إلى تلك الشّحنة النّفسيّة التي تعيدُ إليه التفاؤل والأمل بدوره في الحضارة الإنسانيّة، وهو يبصر سواء عبر شاشات القنوات التلفزيونية أو من خلال حضوره في قطر، بأنّه من الممكن بلوغ التقدّم، والخروج من التبعيّة؟ لقد لبست قطر حلّة جديدة، ولكن أكثر دقّة، إنّها لم تتزيّن للعرس فقط بقدر ما أثبتت أنّها في طور الدّخول إلى مرحلة جديدة في مسيرة تاريخها، فالاستجابة لهذا التحدي الكبير ينقلها إلى ضفّة أخرى من الحضارة الإنسانيّة، لذلك كان من الواضح أن تتجاوز أهداف تنظيم المونديال ما هو رياضي لتلامسَ تلك الأبعاد الثقافيّة والحضاريّة التي تساهم في تعزيز الحضور القطري والعربي في العالم.

عادة ما يكون الاكتشافُ جزءاً من إحساس القادمين إلى قطر، ولكن مع كأس العالم صرنا كلّنا محظوظين بهذا الإحساس نفسه. كنتُ أصرّح لبعض الأصدقاء بأنّ قطر اليوم تسمح لنا بأن نعيد اكتشاف أنفسنا، إنّنا نستعيد تلك الجملة الأثيرة لسقراط “أيّها الإنسان اعرف نفسك بنفسك”، وما أبهى أن نقفَ على ما يميّزنا من سمات حضاريّة في هويّتنا الوطنيّة وأن نفخر بما لدينا من قيم ونحن نعرضها للزائرين على مائدة فُضولهم. ومثلما يُسرّ الزائر بما يكتشفُ فإننا نسعدُ بخيراتنا الرّمزيّة وبما بلغه بلدنا من تطور تكنولوجي وتقدّم عمراني، وبما سيغرسُ في الأجيال الجديدة من شعور بالاعتزاز بانتمائهم لوطنهم.

لم يسبق أن تعرّضت دولة منظمة لكأس العالم لما تعرّضت له دولة قطر من تشويه، ومن المفارقات أن تشنّ جهات حملة مغرضة لا أساس لها من الصّحة في حين وجدت عند وقت الشّدة من قطر دعماً لا نظير لهُ، لقد استغربت أيّما استغراب من ذلك العنت الألماني لمسؤولين صرّحوا فجأة برفضهم لتنظيم دولة عربيّة لكأس العالم. لا شكّ أنّ الإنجاز مصحوب بأعداء له ومكائد، ولكن أن يصدر ممّن عرفوا بإيمانهم بقيمة العمل حتّى تحوّلوا إلى مضرب للأمثال، فإنّ ذلك ليدعو إلى الدّهشة! ومرّة أخرى تثبت القيادة القطريّة حكمتها في مواجهة أيّ تحدّ، فالعلاقات الثنائيّة بين قطر وألمانيا تمتدّ إلى أكثر من أربعين سنة تغطي نطاقاً واسعاً من المجالات التجارية والثقافية، والرياضية والعلمية والسياسية وحجم التبادل التجاري بين البلدين يتزايد عاماً بعد الآخر، إلى أن بلغ 2,5 مليار يورو. وقد ساهمت قطر في إنقاذ عدد من الشركات الألمانيّة عندما واجهت أزمات مالية خطيرة من تبعات الأزمة المالية العالمية ونتيجة الغرامات الأمريكية والأوروبية بسبب فضائح الفساد والتزوير وغسيل الأموال وسوء استخدام الموارد المالية، وشاركت عشرات الشركات الألمانية في بناء مشاريع كأس العالم، وفضلاً عن ذلك بادرت قطر إلى إنشاء أوّل مركز ثقافي لها عام 2017 في قلب برلين، فكانَ “الديوان” البيت الثقافي العربي، فضاء لدعم الثقافة القطريّة والعربيّة والتعريف بها وجسراً للتقارب مع الشّعب الألماني، وقد سُعدت بزيارته وتقديم محاضرة فيه عن النسخة المترجمة إلى الألمانيّة من كتابي”على قدر أهل العزم”، ولم يخطر ببالي يومها أن تتنكّر ألمانيا لثقافتها المنفتحة فتأتي أمراً منافياً لأعراف العلاقات بين الدّول الصّديقة. والأغرب من ذلك أن استمرّ الألمان في مناسبتين أثناء كأس العالم في استفزاز الرأي العام القطري والعربي المسلم، بارتداء وزيرة الداخليّة لشارة الشّواذ، وتعمّد لاعبو الفريق الألماني تكميم أفواههم باليد قبل مباراتهم الافتتاحيّة ضد اليابان، في إشارة إلى موقف يتعارض مع مبادئ الفيفا ويضرب عرض الحائط مدوّنة القيم التي كانت ألمانيا مع نظيراتها الأوروبيين يدّعون الدفاع عنها في كلّ مناسبة.

سقط الغربيّون في اختبار قبول تنظيم دولة عربيّة لكأس العالم، وهم يشهدون مثلما يشهد العالم النجاحات المتلاحقة لهذا التنظيم. كم شعرتُ بالأسى مثل غيري من المثقّفين العرب لهذه المواقف الغربيّة الرعناء التي أعادت إلينا صورة الإمبراطوريات الاستعماريّة، فلطالما ناديتُ ببناء الجسور بدل إقامة الأسوار لكنّ مسافات الأسوار ما فتئت تزداد وترتفع، ولا يعني ذلك أنّ مساحة التفاؤل ضاقت، ولكنّ مساحة الواقعيّة اتّسعت، واتّضح لأكثر من مثقف عربي أنّ الخطاب الثقافي الغربي موغلٌ في العنصريّة رغم ما يدّعيه من احترام للثقافات ونصرةٍ للشّعوب. لقد أُريد للحملة أن تكون عاصفة تسبق انطلاق الحدث، فانقلبت على أصحابها، لتطيحَ بأهمّ ما يملكه الغرب: صورة حداثته التي أقيمت على أفكار عصر التنوير! نعم خان الغرب مرّة أخرى أفكار أولئك المفكرين الذين شكّلوا “العقل الغربي”، حيثُ يرفض الغربيّون أن يروا الحقائق أمامهم، وأن يقبلوا بنجاح قطر في تنظيم هذه الكأس، ولا يمكنني أن أُعمّم ذلك الموقف الغربي، هناك الكثيرُ من مشجعي الدول الغربيّة الذين جاؤوا إلى الدوحة، ولهم أفكار مغلوطة، فاكتشفوا ما لم يجدوه في أبواق دعاية بلدانهم، وصاروا خير سفراء لنا بين مواطنيهم وشعوبهم، ذلك هو الانتصار الحقيقي أن يُسفّه الواقع الادّعاءات الباطلة، ويقف الإنسان الغربي أمام زيف الخطاب الايديولوجي للإعلام الغربي.

يتبع…

Exit mobile version