الهديل

خاص الهديل: من تفجير المرفأ الى حادثة العاقبية: “العدالة ليست طريقة مناسبة في لبنان “!..

خاص الهديل:

 

بعيداً عن البعد السياسي في حادثة العاقبية، وبعيداً عما إذا كانت الحادثة حصلت بقرار مسبق، أم نتيجة “دينامية” تفاعلت جراء دخول مركبة اليونيفيل إلى منطقة خاطئة، فإن البعد الآخر الذي يحتاج تسليط الضوء عليه، هو العلاقة بين العدالة وكشف الحقيقة في لبنان، وذلك ليس فقط بخصوص قضية مقتل الجندي الإيرلندي، بل بقضايا اغتيال الحريري وتفجير المرفأ وعشرات القضايا الأخرى التي لم تصل العدالة فيها إلى كشف الحقيقة، والتي تم التعامل معها على أساس التحذير من تطبيق العدالة في لبنان، لأنه في بلد الأرز، فإن العدالة لا تؤدي إلى كشف الحقيقة، بل تؤدي إلى نشوب حرب وضرب السلم الأهلي.

…وعليه، فإن السؤال الذي تطرحه القضايا المشابهة لحادثة العاقبية، هو هل يستطيع بلد الاستمرار وهو في حالة هروب دائمة من العدالة، لأنه في عرف دولته ومجتمعه فإن كشف الحقيقة فيه تعني دماراً للاستقرار وليس بناءاً للاستقرار، كما الحال في كل دول العالم!؟؟

لم يسبق أن خلص تحقيق في أية قضية جرمية مالية أو سياسية أو إرهابية في لبنان إلى نتيجة حاسمة والى كشف الحقيقة الواضحة بشأنها. والسبب في ذلك، يعود إلى أنه توجد في لبنان “قناعة صادمة” تقول أن القضايا الكبرى التي يتم التحقيق بها، تظل وقائعها التي حدثت – مع هولها – أقل خطراً على أمن واستقرار البلد وأرواح الناس، من تلك التي ستحدث نتيجة الكشف عن خلفيات هذه القضية الإجرامية أو تلك وعن الجهة أو الجهات التي قامت بارتكابها.

والواقع ان هذه القناعة التي تعتقد بأن كشف الجريمة يسبب للبنان خسائر أكبر من الخسائر التي نتجت عن الجريمة نفسها التي وقعت، هي التي أدت الى شيوع مبدأ غير معلن في لبنان. ولكنه موجود ومعاش، وصار له شرعية عملية، وبات يعتبر نوعاً من السياسة الواقعية؛ ويتم النظر إليه على أنه مبدأ يناسب ظروف البلد التي يحب ان يقتنع فيها الجميع في الداخل وأيضاً في الخارج بأن “العدالة في لبنان ليست هي الطريقة المناسبة لتجنب الأسوأ ولتجنب تكرار الجريمة وعمليات القتل والفساد، الخ..”

ومع مرور الوقت على ممارسته؛ أصبح هذا المبدأ المقلوب، هو بديل مبدأ مواجهة الجرائم والفساد بالعدالة، وصارت الوصفة لحماية الاستقرار تقتضي من جملة ما تقتضيه القيام بدفن الحقيقة المطلوب كشفها بقضايا الفساد والقتل، في مقبرة تقادم الزمن عليها، ما يقودها للنسيان.

إن هذا المبدأ الذي يرى أن اللاعدالة هي ذات نتائج أقل سوءاً على أمن لبنان. بما لا يقارن من تحقيق العدالة. تم تطبيقها على قضايا اغتيال الحريري وانفجار المرفأ وعشرات عمليات الاغتيالات والتفجيرات، وحالياً، سوف تطبق بنهاية الأمر على قضية حادثة العاقبية بغض النظر عن اخلاص الجهات التي تحقق في هذه القضية، لكن التحقيق شيء، وإرسال الجناة إلى السجون في لبنان بناء على حكم قضائي بإسم الشعب اللبناني وبإسم سيادة الدولة اللبنانية وبإسم استقلال القضاء، شيء آخر…

ولن يكون مفاجئاً لو اكتشف لبنان بعد وقت غير قصير أو بعد وقت طويل، أن سياسة إرسال قضايا الجرائم والحوادث التي تقع فوق أراضيه، إلى مقبرة النسيان، بغية تجنب أن يكون لكشفها نتائج أشد فتكاً من تلك التي أدت إليها وقائعها، لم تعد فقط سياسة لبنانية محلية، بل أيضاً باتت سياسة دولية تتعامل بها الدول الكبرى مع العدالة في لبنان. ومن هذا المنطلق يمكن فهم لماذا وكيف وصلت المحكمة الدولية باغتيال رفيق الحريري، إلى نتيجة تظهر أن هناك قراراً دولياً بإقفال الملف ليس لعدم وجود أدلة، بل لعدم وجود رغبة دولية بالتوصل الى الحقيقة في بلد هناك قناعة بأن العدالة فيه ليست الطريقة الأنسب للكشف عن المجرم وسجن الأشرار، بل هي طريقة تؤدي الى سقوط المزيد من الضحايا على أيدي الأشرار…

وهذا الواقع الذي بات سائداً في لبنان هو المسؤول عن وصول قضية انفجار مرفأ بيروت، إلى نقطة أنها لم تعد قضية عدالة لبنانية ولن تكون حتى قضية عدالة دولية..

وسيكتشف لبنان بعد طول غياب للعدالة فيه، أن العدالة إن لم تنبع من أرضه ومؤسساته؛ فهي لا تستورد؛ وسيكتشف لبنان أن الجريمة لا تكافح بشرطة من الخارج، لأن قدرة اللصوص والقتلة على حماية أنفسهم هي قدرة محلية؛ بمعنى أنه في حال كانت مساحة حضورهم أكبر من مساحة العدالة، وكان خطابهم أقوى من خطاب الدولة، فإن أحداً في الداخل لن يرغب بفتح ملف قضائي لهم، كما أن أحداً في الخارج لن يتوقع فائدة من فتح ملف لهم.

وفي مثل هذه الأوضاع تصبح الدولة هي الخائفة من تبعات كشف الحقيقة على أمن ما تبقى من أمن، وتصبح عائلة المجتمع الدولي أشبه “بعائلة مستورة” تريد الاكتفاء بما سقط من ضحايا في الجريمة التي هي محل التحقيق بها، لأن كشف الحقيقة بشأن من ارتكبها ولماذا ارتكبها، سيؤدي لا محالة لسقوط ضحايا أكثر بكثير، وسيؤدي لخراب مستطير.

مع ذلك يظل مطلوباً تسطير معاملات وتطيير أوراق رسمية تظهر بالشكل ان البحث جار عن العدالة بقضية مقتل الجندي الإيرلندي، وحول كل قضية حادثة العاقبية؛ وذلك حتى لا يظهر للملأ أن الدولة والقضاء والأمن في لبنان، يستسلمون للمبدأ المعيب القائل “أن العدالة ليست طريقة مناسبة في لبنان” ..

Exit mobile version