المقال الثاني
الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري وزير دولة بدرجة نائب رئيس وزراء، رئيس مكتبة قطر الوطنية، يكتب عن مونديال قطر، فيؤرخ لهذا الحدث الكبير من زواياه المختلفة بأسلوب رشيق فيه من الموضوعية والعلمية ومشاعر اللحظة القطرية الهامة، ما يجعل نصه بمثابة شهادة هامة عن مونديال قطر …
فيما يلي نص المقال الثاني من سلسة مقالات الدكتور حمد الكواري في جريدة الشرق القطرية:
كأس العالم سحر الصورة ينقلب على الساحر (2)
لم يكن الإنجاز القطري في تنظيم كأس العالم 2022 قائما على الأقوال والشعارات، فما أقضّ مضجع الغربيين هو استفادة القطريين من كل منجزات الحضارة الغربية على مستوى التقدم البصري والرقمي لتكون تلك الوسائل في خدمة الحقيقة، وليس الباطل، لقد كنتُ مدركا أنّ المعركة الكبرى التي سنخوضها بشرفٍ وأمانةِ من يحملُ المثل الحقيقية وليس صدى المثل، هي معركة الصورة بامتيازٍ.
لقد وقع الغرب في شرك وسائله، حين داهمته الصّورة الواضحة للإنجازات القطرية، فالخطاب البصري أقدر على صدم هذا الغرب، وقديما كنا نتحدّث عن “صدمة الحداثة” منذ حملة بونابارت على مصر، والآن جدير بنا أن نتحدث عن “صدمة الغرب”، الذي اعتبر الشرق مجرَّد عالم دوني، لا يقدر المنتمون إليه بلوغ التقدم، وتهيَّأ لهم أنّ الإنسان العربي لا ينفع للإسهام في الحضارة الإنسانية، وأعتقد أن الصدمة من شأنها إسقاط تلك الصّورة التي اخترعها الغرب عنّا، وسوّقوها إلينا حتى تحدّ من عزائم الأجيال العربيّة، ولعلّ هذه الصّدمة تعيدُ الرّشد إلى النّخب الغربيّة وتذكرهم بأننا كنا في وقتٍ مضى نُهدي إليهم “الزمن” الحضاري، ولَيتهم يستحضرون ذلك الارتباك والخوف الذي شمل أجدادهم حينَ اطّلعوا على تلك الساعة الرهيبة التي أهداها هارون الرشيد إلى الملك شارلمان، ألم يحن الوقتُ بعد لتتفطّن هذه النخبة إلى أن عقارب الساعة العربيّة عادت إلى الاشتغال، وأنّ ناقوسَ العودة يُدقّ كلّ يوم من أيّام كأس العالم على أرض قطر البلد الصغير الذي حمل إلى العرب والمسلمين كافة شغف الأحلام الكبرى؟
“لتعارفوا” علّهم يُبصرون
في مقابل ذلك ماذا كانت رسالة قطر إلى أدعياء حقوق الإنسان؟ لقد عُرف القطريون منذ القديم بتواضعهم وبساطتهم، فهم لا يُكثرون في الكلام ولكنهم يعبرون عن مواقفهم بهدوء وبصدق، وهذا ما عرفه عنهم الرحالة الذين جابوا أرض قطر منذ قرون، فتواصلوا مع أهلها وخبروا طبعهم ومقوّمات شخصيتهم، ووجدوا فيهم محبة للتعرف على الثقافات، حتى أن الموانئ القطرية لم تكن مجرّد أماكن لتبادل السلع التجارية بل كانت أيضا فضاء لتبادل المعارف والتراث الإنساني من مهارات حرفية ومخزون فني شمل الطبخ والموسيقى والطب الشعبي وفنون العمارة، وغيرها من الآداب التي كانت محلّ اهتمام القطريين حكّاما وشعبا، ولم تخرج “فلسفة” المونديال لدى القطريين عن هذه القاعدة، حيثُ فاجأت قطر العالم في حفل الافتتاح بعرض فرجوي متكوّن من سبع لوحات تصويريّة تابعه المليارات من البشر، ولا يخفى البعد الرمزي لرقم سبعة لدى العرب المسلمين وفي التاريخ الإنساني عامّة، فالسّماوات والأرضون سبعة، والله خلق الكون في ستة أيام ثمّ استوى على العرش في اليوم السابع والقرآن الكريم فيه سبعة مثاني، والحجّ فيه طواف سبع مرّات، ورمي الجمرات سبع.
ولا شكّ أنّ هذا الاختيار مقصود في عدد اللوحات، وهو رسالة واضحة لانتماء الإنسانيّة إلى شبكة رمزيّة واحدة، ولعلّ ما يؤكّد ذلك هو ما عبّرت عنهُ لوحة “لتعارفوا” التي اعتمدت على ثلاث فقرات، توسّطتها فقرةٌ في غاية الرمزيّة والدقة والبيان. لقد جمعت هذه الفقرة بين الشاب القطريّ غانم المفتاح والممثّل الأمريكي مورغان فريمان، في حوارٍ أذهل الأسماع وفي مشهديّة جمّدت الأبصار، فتناولت موضوع الأفكار المغلوطة حول ازدواجيّة المعايير بين الشرق والغرب، لينشأ الحوار بين الجيل العربي الجديد وبين النخب الغربيّة، بين وجهات نظر للعالم متباينة، لكنّ هذا التباين سرعان ما يتضاءلُ عندما يلتقي الجسران الضّوئيّان اللذان يقفان عليهما، في إشارة إلى تلاشي التباينات أمام فطرة الإنسان في التعارف، فالأصل هو التقارب الإنساني وليس التباعد، السّلام وليس الحرب، التعاون وليس الاقتتال، وفي لحظة خاشعةٍ يرتّل القرآن الكريم، فيتلو الشاب غانم قوله تعالى “يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شُعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم”، هكذا أنصتت المليارات من البشر لأوّل مرّة في تاريخ المونديل للقرآن يتلى على أرض عربيّة ومسلمة آمنت بأنّ قرآنها فخرٌ لأبنائها وللأمة التي تنتمي إليها، فكانت رسالة قطر إلى العالم واضحة، مبدأها “التعارف”، ممّا يعني العيش المشترك وقبول اختلاف الثقافات والتنوّع اللغوي والعرقي والديني، إنّها رسالة إلى من يتشدّقُ بشعارات التنوّع وهو أوّل من يدوس عليها.
أعتقد أنّ تلك اللوحة بمثابة درسٍ في الأخلاقيّة الإنسانيّة التي يفترض أن يتحلّى بها كلّ إنسان أيّا كانت ثقافته وعرقه ولونه ولغته، وتوجيه للأساس القيمي الذي تنحدر منه الرياضة باعتبارها وسيلة لتحقيق ذلك التعارف وليست أداة للفرقة وإظهار النزاعات، وفعلاً يسيرُ إيقاع كأس العالم على هذا الأساس، فلا معارك جانبيّة بين المشجّعين، ولا مظاهر للمشاحنات التي كثيرًا ما عرفتها دورات سابقة للمونديال، ولا مضايقات للنساء في الملاعب أو خارجها، ففي مونديال قطر، لا يقع الحديث عن السّلام، لأنّه واقع يعاش يوميّا، ويبصرهُ الأفّاكون قبل الأصدقاء.
المونديال ملعب حضاري
كان هناك “كأس عالم” آخر تجري مبارياته خارج الملاعب! بعض المباريات دارت على صفحات تويتر وغيرها من التطبيقات وفي الإعلام العربي والدولي وبعضها دار على هذه الأرض الطيبة ابتداء من الفرجان وانتهاء بمناطق المشجّعين والشوارع والأسواق. أيقنت تماما أنّ حدود اللعبة أوسع ممّا يتصوّر البعض، ذلك ما لم يكن لأحد أن يدركه بالعين والذّهن لو لم يكن المونديال يجري أمام ناظريه وهو متورّط في متابعته، بل ومندمج معه ومشارك في اللعبة!
ففي كلّ فضاء رأيتُ مظاهر للعب الحضاري، حقّا، الحضارة خلاصة أدوار للاعبين مهرة عبر التاريخ، وما يقع في المونديال من أنشطة وتعارف وردود أفعال هو جديرٌ بالدرس لأنّه يجعلنا نؤمن بأنّ المونديال هو فرصة سانحة لا للمشاركة الرياضيّة فقط وإنّما للعب أدوار أخرى متّصلة بما هو حضاري في هذه اللحظة التاريخية المفصلية من تاريخ إنسانيّتنا، هذا ما يستحقُّ تسليط الضّوء عليه.
لننظر إلى صورة الآلاف من المصلين في أروقة ملاعب كأس العالم، حيثُ يستجيب المصلّون لنداء الصلاة، في مشهد تاريخي يقع لأول مرة في تاريخ بطولة كأس العالم، فهذه الدّورة تبوح بهويتها العربية الإسلامية، وتضع طابعها الخاصّ مثل بصمةٍ لا تُمحى، هل كان ذلك أمرا منتظرا قبل أشهر من بداية البطولة؟ كانت الملاعب مهيَّأة لذلك، ونحن نفخرُ بأن يكون للصلاة حضورها مثلما نفخر أن يرفع الأذان في كلّ مكان في الدوحة بتلك الأصوات الجميلة التي تهتزّ لها الأسماع، وكم نالت صور المصلين إعجاب وتقدير مئات الآلاف من المشجعين، فلم يجدوا تعارضا ما بين الرياضة وأداء تعاليم دين يحث المسلمين على محبّة الناس ودعوتهم لعمل ما هو نافع بالموعظة الحسنة والحكمة. وكانت صور المشجعين وهم يدخلون المساجد في قطر للتعرف على الإسلام، وللاقتراب من معمارية المعالم الدينية والاستماع إلى الدعاة مشهدا آخر لذلك التواصل السلس بين الأديان، في كنف الاحترام.
المشجعون شاركوا بدورهم في إنتاج مشهديّة جديدة، ففي كل دورة من دورات كأس العالم، تتكاثر الصور والأيقونات التي تنتشر لتُعلي من قيمة اللاعبين أو الفرق الرياضية أو بعض المشجعين، لكنني كنتُ أرى أنّ المشهديّة التي تستأثر بالانتباه تدور أطوارها خارج الملعب، فيكون المشجعون أطرافا رئيسية فيها، ألم تستأثر صور المشجعين الذين سارعوا إلى ارتداء الغترة والعقال بالانتشار في العالم؟! ألم تعد عناصر من اللباس القطري جزءا من الاحتفاء؟!
في هذه الكأس ليس هناك أيقونات صغيرة وأخرى كبيرة، ولا يختصّ المشاهير بالمشاهدة، بل أنتج المونديال أيقونات لغيرهم، هكذا ردّد رجل المترو الشاب الكيني أبو بكر عباس جملته البسيطة، “طريق المترو في هذا الاتجاه” metro this way ليرددها من بعده مئات الآلاف، صغارا وكبارًا، وتصبح مثل ترنيمة شعبية قد توحي بأنّ المونديال في نسخته القطرية العربية رسم طريقًا جديدة للعرب أجمعين، فالطريق إلى المترو هو طريق في بعده الرمزي يؤدي إلى لحظة اتصالية جديدة بالغرب وبالعالم، فاليوم تحقق للعرب ما لم يتحقق لهم من قبلُ، أن يُشعروا الغرب المتقدّم بالندية، وهي ندية لا تفيد بها درجة التنظيم فحسب، وإنّما يعدّ انتصار المنتخب المغربي وتأهّله للدور ربع النهائي كأوّل منتخب عربي يبلغ هذه المرحلة وجها آخر لتلك الندية التي تفتح أملا واسعًا لأجيال عربية في أن تبدع في مختلف المجالات، فمن حقها أن تنافس الشعوب الأخرى فيما تقدمه الحضارة الإنسانية من أدوار متاحة لمن يسعى ويبادر ويعمل بجد أيا كانت جنسيته وثقافته ولغته ومعتقداته.
حقا إنّ الطريق إلى مترو الحضارة يبدأ من هنا، من دولة قطر، فقد ملت الأجيال العربية طويلاً من الشعارات، ولكن هذه المرة كانت الإنجازات تُغطي على الوعود وتفوقها.
يتبع…