الهديل

من هو المجرم الحقيقي؟ الموظف أم …

 

دأبت مجلة الهديل منذ بداياتها ولغاية اليوم على ابتغاء الموضوعية والشفافية والبحث عن الحقيقة المجردة بعيداً عن الغوغائية والشعبوية. ركزت وسائل الاعلام المرئية والمسموعة في الآونة الأخيرة على موضوع مكافحة الفساد وجرى استهداف الموظف العمومي كمتهم أول وشبه الوحيد في بعض الأحيان لهذه الآفة وعلى قاعدة كلهم يعني كلهم التي تم استهلاكها سواء أكان إعلامياً أم سياسياً.

لذلك كان لا بد لنا من أن نتناول الموضوع وعرض وجهة النظر الأخرى من زاوية بعض الموظفين الأوادم الذين يفتحون أبواب مكتبهم لخدمة المواطنين معتمدين سياسة الباب المفتوح لأي مواطن وسياسة الخدمة العامة التي تقول بأن موظف القطاع العام هو خادم للشعب مهما علت رتبته ووظيفته ولكن من جانب آخر لا بد من المحافظة على احترامه وكرامته.

لم يعد خافياً في كثير من الادارات والمؤسسات الرسمية أنها تقوم على أشخاص يلعبون دور الجندي المجهول بدل من أن تقوم على عمل مؤسسساتي جرى تدميره ممن يفترض بهم بناؤه.

بات موظف القطاع العام الآدمي يخجل من التعريف عن نفسه بأنه موظف دولة لأن أول ما يتبادر إلى ذهن الشخص الآخر بأنه حرامي أو مرتش وفي أحسن الأحوال بعد انهيار العملة الصارخ شحاذ لا يستحق العيش بكرامة وقد يجوز عليه الصدقة والإحسان، وفي كلا الحالين هنالك انتقاص من كرامة هذا الموظف.

إن التوقيفات بخصوص موضوع الفساد الذي طال تقريباً جميع موظفي النافعة (مصلحة تسجيل السيارات) ومعظم موظفي أمانة السجل العقاري في بعبدا ركز على موضوع الرشاوى والاكراميات (مع تفصيل دقيق لأنواعها وماهياتها) التي استحصل عليها الموقوفون أو المشتبه بهم. هذه التوقيفات والتحقيقات أهملت أو تجاهلت الأسباب الرئيسية التي أوصلت البلاد والعباد لما وصلنا إليه. طبعاً موضوع الفساد الذي يعالج ليس جديداً أو مستجداً بل هو قديم ولم تقم الدولة بأي إجراء سابق ملموس لمعالجته.

أما اليوم وبسبب الحالة الاقتصادية الصعبة التي وصلنا إليها طفى الموضوع على السطح، بل ولعل من جعله يطفو هي الدولة ذاتها.

لماذا لم نسمع سابقاً بهذا الكم الهائل من الفضائح؟ أوليس لأن المواطن كان يحصل على معاملته سواء دفع او لم يدفع؟ أليس لأن الدولة كانت تؤمن بالحد الأدنى وسائل العمل الضرورية من كهرباء وورق وحبر وتجهيزات مكتبية والمكننة اللازمة لإجراء المعاملات؟! أما اليوم فماذا جرى؟ لقد حرمت الدولة مؤسساتها التي كانت تدر عليها الأموال على سبيل المثال النافعة والعقارية من أدوات العمل الضرورية التي عددنا بعضها أعلاه لتعلو صرخة المواطن وليستغل بعض الموظفين من ذوي الحاجة وبعض الموظفين من ضعاف النفوس وبعض السماسرة من عديمي الأخلاق هذه الذريعة لكي يحققوا بغير وجه حق بعض المكتسبات ويضربون بشكل كامل صورة الإدارة العامة.

ألم تقم الدولة بإطلاق الرصاص على قدميها؟ ألم تسأل نفسها كيف للموظف أن يتحمل تكاليف وصوله إلى وظيفته وهو يتقاضى راتباً لا يكفيه أجرة الوصول؟! أليس هذا الموظف إنساناً يحق له العيش بشرف من دون ان يقلق حول سبيل تأمين قوت يومه وتعليم أولاده وحقه بالطبابة والاستشفاء! لقد تركت الدولة موظفيها لمن يعلم ومن لا يعلم فريسة للظروف القاهرة والأمراض المتفشية ولحيتان المال من مافيات الطبابة والتعليم والمحروقات والكهرباء وحتى الغذاء، بل وباتت الدولة من جملة جلاديه.

إذا أردت أن تفسد موظفاً فأعطه أقل مما يستحق، هذا ما يحصل بالفعل اليوم حيث يجاهد البعض من الموظفين لعدم الاستسلام.

لا يجب إغفال أن ما شجع بعض الموظفين على ارتكاب ما ارتكبوه من مخالفات هو غياب المحاسبة والمساءلة في السابق والأهم من ذلك هو غياب مبدأ الثواب والعقاب والتركيز على الثواب اليوم مطلوباً لمن يستحق أكثر من أي يوم مضى. 

في السياسة ومن وجهة نظر البعض إن الحملة الممنهجة على موظفي القطاع العام هدفها الرئيسي التعمية عن الفساد الحقيقي الذي يتم بالصفقات التي يقوم بها كبار رجال السياسة وحرفاً للأنظار عن الارتكابات التي قاموا بها ولعل أقلها تهريب رؤوس أموالهم إلى الخارج إمعاناً في ضرب النظام المالي والاقتصادي للبلد (اجراءات في الشكل قد تكون قانونية ولكن الأهم في المضمون هي غير أخلاقية وساقطة). وهنا تطفو نظرية تقول بأن الكبار باعوا الصغار وبالتالي كي تظهر للرأي العام المحلي والخارجي (صندوق النقد الدولي وسواه) بأنك تقوم بإصلاحات تقوم الدولة بتوقيفات لصغار اللصوص حماية لكبار اللصوص إن صح التعبير.

إن هذا المقال لا يهدف إلى إعطاء براءة ذمة لمن تم توقيفه أو للمتهمين من الموظفين بل يهدف للإضاءة على أن ما يجري معالجته اليوم مع أهميته هو معالجة لنتائج ما اقترفته الإدارة السياسية للبلاد في حين أن المطلوب هو معالجة للأسباب.

لكن في بلدنا هناك حملة ممنهجة لتدمير القطاع العام، أليس الهدف هو إفلاس البلد تمهيداً لبيعه بأبخس الأسعار؟ قد لا أكون أعلم من تسبب بذلك ولكنني أعلم من دفع الثمن، وللحديث تتمة …

Exit mobile version