لا يتوقف بحث الإنسان عن المعجزات، وتنتشر على الإنترنت إعلانات تبشر بعلاجات إعجازية، فما قصة “الأسرّة الطبية” التي انتشرت مؤخراً في أمريكا وتزعم استخدام “طاقة غامضة” لعلاج الأمراض؟
وعلى الرغم من التطور الدائم في مجال البحوث الطبية بشكل عام، وصولاً إلى قرب توفر “القلب الاصطناعي”، إلا أن هناك مساراً آخر موازياً من البحث عن علاجات غير تقليدية، غالباً ما تكون بعيدة عن القواعد العلمية المتعارف عليها.
ومن هذه التقاليع تتحدث مواقع غربية على الإنترنت، سواء من خلال “تجارب شخصية” أو إعلانات، عن “أجهزة معجزة” يسمونها “مدبيد” يمكنها تقريباً أن تعالج أي مرض يمكن التفكير به باستخدام قوة الطاقة الغامضة، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
ما قصة تلك “المعجزة العلاجية”؟
يطلق على ذلك العلاج المزعوم اسم “مدبيد”، وهو ما قد يكون اختصاراً لمصطلح “Medical Bed ” أو”أسرّة طبية”، أو اختصاراً لـ”Meditation Bed” أي “أسرّة تأمل”.
وأصبحت هذه الفكرة العلاجية شائعة بشكل متزايد على قنوات طبية فرعية في الولايات المتحدة، وعلى كافة شبكات التواصل الاجتماعي المعروفة وتطبيقات الدردشة، بينما تتقاضى بعض الشركات آلاف الدولارات مقابل استخدام هذه الأجهزة، دون أن تثبت صحة هذه الادعاءات.
فهناك نُزُل، أو موتيل، موجود في بلدة صغيرة واقعة على ضفة نهر المسيسيبي، تحول إلى مركز للعلاج بأجهزة “مدبيد”، وهو أبعد ما يكون عن مكان يضم التكنولوجيا التي يفترض أنها تغير العالم، حسبما جاء في نشرة إعلانية موجودة في ردهة المكان المهجورة تقريباً، والتي تصف هذه العلاجات بأنها “الموجة الجديدة من العلاج العلمي”.
ولكن منذ الصيف الماضي، تم تجهيز المبنى الواقع في بلدة إيست دبيوك، في ولاية إلينوي، على بعد نحو ثلاث ساعات إلى الغرب من شيكاغو، بأجهزة طبية غير معروفة من المفترض أنها تمد المرضى بـ “طاقة قوة الحياة”.
وهذا الفندق الصغير السابق، هو أحد المواقع العديدة المنتشرة في أرجاء الولايات المتحدة، والتي تقدم هذا النوع من العلاجات، والتابعة لشركة Tesla BioHealing “تسلا بيوهيلينغ”، التي ليست لديها أي علاقة بشركة السيارات الكهربائية الشهيرة، التي يمتلكها إيلون ماسك.
وقررت مراسلة بي بي سي، التي شاركت في إعداد التقرير، أن تجرب العلاج بطريقة “مدبيد”، وبعد أن تم استقبالها في مكتب الاستقبال في ردهة المركز في ظهيرة يوم غائم، أخضعتها طبيبة لاختبار لتحديد مستويات الطاقة لديها، بأن جعلتها تضع أصابعها داخل صندوق معدني.
ثم أدخلوها إلى إحدى الغرف، والتي لا يبدو أنه طرأ عليها تغيير يُذكر منذ أن كان المبنى يعمل كفندق صغير بسيط، حيث من المفترض أن تتدفق “طاقة قوة الحياة البيوفوتونية النقية” إلى جسدها.
وعلى الرغم من أن الموظفين في موتيل شركة “تسلا بيوهيلينغ” في بلدة إيست دبيوك تحدثوا كثيراً عن جحافل من العملاء الذين يعانون من جميع أنواع الأمراض، وكيف أن جميعهم قالوا إن حالاتهم تحسنت بفضل “مدبيد”، إلا أن مراسلة بي بي سي لم تشعر بشيء أكثر من الفضول وشعور بسيط بعدم الارتياح، بينما كانت تنظر من النافذة إلى موقف السيارات الفارغ تقريباً؛ حيث كانت العبوات التي تضم “تسلا مدبيد” موضوعة في صناديق خشبية تحت السرير وعلى طاولة بجانبه.
وبعد أن انتهت ساعتها العلاجية المفترضة في الغرفة، عادت إلى عيادة الطبيبة حيث كررت اختبار وضع أصابعها في الصندوق المعدني، وكانت طاقتها، وفق القياس الذي أعطاه كمبيوتر الطبيبة المحمول، قد ارتفعت. لكن لم يكن بإمكان الطبيبة ولا أي موظف آخر في “تسلا بيوهيلينغ”، أن يخبرها ما الذي يوجد بداخل علب “مدبيد” نفسها.
محاولة سبر أغوار “العلاج الغامض”
أمام هذا الغموض المحيط بعلب “مدبيد”، قرر بعض العملاء المغامرين أن يأخذوا الأمر على عاتقهم في محاولة لمعرفة ماهيتها الحقيقية. ويظهر مقطع فيديو على تطبيق “تيك توك” عميلة جريئة وغاضبة تقوم بفتح إحدى تلك العلب، فقط لتجد داخلها مادة تشبه الإسمنت. ثم تقول “إلى أي شخص يفكر في أن يشتري هذا العلاج من تسلا، أقول: لا تبذّر أموالك”.
لكن أشياء من هذا القبيل، لا تفلح في أن تجر الشركة أبداً إلى الإفصاح عن ماهية المكونات “النشطة”، إن وجدت حقيقة، داخل العبوات، لكنها تكتفي بالقول في رسالة عبر البريد الإلكتروني: “تقنياتنا تتضمن أكثر بكثير مما يمكن أن تراه العين”.
وفي حين تقول الشركة إن الغرض من عبوات تسلا، ليس أن تحل محل رعاية الطبيب، إلا أنها تدرج أيضاً مجموعة أخرى من المزاعم عن حالات علاج، وتقول: “الفوائد الصحية لا تقدر بثمن”.
وتشير كل من شركة “تسلا بيوهيلينغ” و”90.10″ إلى أن لديهما الآلاف من شهادات العملاء الإيجابية. وعلى الرغم من الزعم البارز بوضوح على موقع شركة 90.10 بأنها توفر دواء على أساس “طب التردد الكمي” بإثبات علمي، فقد قال الرئيس التنفيذي للشركة، أوليفر شالكه، لبي بي سي إنه “ليس منتجاً طبياً، ولم يقصد منه أن يكون كذلك أبداً”.
فكيف إذن يُسمح للشركات المختصة بـ”مدبيد” بتقديم منتجاتها، والتلميح إلى تأثيرها الأشبه بالمعجزة مع الإفلات من أي إشراف تنظيمي؟ يقول الدكتور ستيفن باريت، وهو طبيب نفسي متقاعد كان يحقق في الادعاءات المشكوك في صحتها منذ عقود، إن إدارة الغذاء والدواء، الجهة المنظمة للرعاية الصحية في الولايات المتحدة تتحمل جزءاً من المسؤولية.
ويضيف: “يُطلب التسجيل لدى إدارة الغذاء والدواء لأي مصنع يريد تسويق منتجاته، ولكن هذا يعني فقط إبلاغ الإدارة بأنه موجود”. ورغم أن شركة “تسلا بيوهيلينغ” وشركات أخرى تعلن أنها مسجلة لدى إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، إلا أن هذا لا يعني شيئاً، برأي الدكتور باريت، الذي يوضح أنه “لا يتضمن تسجيل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية شيئاً حول ما إذا كان الجهاز مفيداً أم لا”.
وحين يتعلق الأمر بتقديم ادعاءات غامضة حول الصحة العامة أو تصريحات غير قابلة للإثبات حول زيادة الطاقة، فإن السلطات “لا تفعل شيئاً تقريباً حيال ذلك”، كما يقول. كان الدكتور باريت يبدو متعباً وهو يتحدث، وربما بسبب نقص “البيوفوتونات الحيوية”، ولكن السبب على الأرجح هو السنوات الطويلة التي أمضاها في تتبع مزاعم علاجية مشكوك بصحتها.
ويقول: “هل تعتقد حقاً بأن التعرض للشيء الذي يقدمونه لك، أياً ما يكون، وأنت على السرير سيجعلك أكثر نشاطاً؟ لديّ شكوك جدية بصحة ذلك”.
كيف تحمي شركات “اللاشيء” نفسها؟
لكن الآراء بخصوصها تتفاوت بشكل كبير، ويبدو أن نظرة الناس إلى هذه الطرق العلاجية مختلفة إلى حد كبير عما هي عليه في الحقيقة؛ إذ يصر البعض على أن “مدبيد” هي تكنولوجيا سرية، ومن غير المرجح أن تكون متاحة للبشر العاديين، إذ يحرص كبار المليارديرات والأعضاء في الأجهزة التي تتحكم بمصائر الشعوب من خلف الكواليس ويطلق عليها تعبير “الدولة العميقة” على إخفائها عن عامة الناس.
كما تحيط بـ “مدبيد” نظريات مؤامرة عجيبة، منها أنها “تكنولوجيا فضائية”، وهناك أيضا ادعاءات غريبة متعلقة بها، مثل القول إن الرئيس الأمريكي السابق جون إف كينيدي، لا يزال على قيد الحياة وذلك بفضل ربط جسده بأحد أجهزة “مدبيد”.
وإلى جانب ما سبق، هناك أيضاً فئة لديها رأي أقل تحليقاً في عالم الخيال، ترى أن “مدبيد” علاج حقيقي جداً، ومتاح للجميع، لكنه ليس من ضمن التيار الطبي السائد. وهذا الرأي الأخير هو الذي تراهن عليه شركة “تسلا بيوهيلينغ” ومجموعة أخرى من الشركات العاملة في نفس المجال، في الأسعار الباهظة التي حددتها لقاء توفير هذا العلاج.
وتقدم “تسلا بيوهيلينغ” على سبيل المثال أجهزة “مدبيد” منزلية بأسعار تصل إلى 19999 دولاراً، في حين أن ساعة من العلاج في غرفة في أحد مراكز “مدبيد” التابعة للشركة، وكلها عبارة عن موتيلات، لا تكلف سوى 160 دولاراً.
ولكن حتى ضمن العالم الذي ينظر إلى “مدبيد” كسلعة استهلاكية، وبعيداً عن تصورات مثل الكائنات الفضائية أو جون كنيدي الحي حتى اليوم، تثير ماهية “مدبيد” الحقيقية كثيراً من الجدل والخلاف. وهناك أسباب وجيهة للغاية لذلك، كما ترى سارة أنيانو، محللة المعلومات المضللة في مركز مكافحة التطرف التابع لرابطة مكافحة التشهير. وقالت أنيانو لبي بي سي: “من الصعب حقاً تقديم تعريف محدد لشيء غير موجود”.
أجرت أنيانو أبحاثاً حول انتشار النقاشات عن “مدبيد” عبر الإنترنت، وقامت ضمن محاولتها لفهم الأمر بشكل أفضل بإجراء تجربة هذا العلاج مع شركة تحمل اسم “90.10”. وتقول: “كانت التجربة بمثابة لا شيء، يطلبون منك أن تستلقي على السرير، وتفكر بعمق في مدبيد”.
وتضيف أن الشركات التي تقدم هذا العلاج تلجأ إلى حماية نفسها بذكر معلومات تخلي مسؤوليتها، وتوضح: “يذكرون على الموقع الخاص بهم، بأحرف دقيقة للغاية في الأسفل أن مدبيد لا يفترض بها معالجة الأمراض أو تشخيصها”.
وهذه الطريقة شائعة في إخلاء المسؤولية، ونلاحظ أن كافة الشركات التي تقدم منتجاً مرتبطاً بـ “مدبيد” تستخدمه بإحدى الطرق.
ورغم أن كل هذه الشركات تضع قوائم طويلة من الأمراض التي من المفترض أن تساعد تقنياتها في علاجها، وتقدم شهادات من العملاء الراضين عن العلاج، إلا أنها تقول إن منتجاتها لا تهدف إلى استبدال العلاجات التي يقدمها طبيب مؤهل.
وليست شركة “تسلا بيوهيلنج” استثناء؛ إذ كتب في أعلى موقع الشركة على الإنترنت بوضوح ما يلي: “لا يمكننا تشخيص أي مرض أو حالة أو علاجها أو شفائها أو الوقاية منها”.
ومع ذلك، تنص المواد الترويجية الخاصة بالشركة على ما يلي: “يلاحظ العديد من الأشخاص تحسناً في صحتهم العامة حتى بعد ساعة واحدة فقط من التمدد والراحة على تسلا مدبيد”، وتدرج الشركة عدداً من الادعاءات المحددة، غير المدعومة ببراهين، حول أمراض معينة.