خاص الهديل:
لم يكن أمام بنيامين نتنياهو خيار آخر
سوى الجلوس مع ايتمار بن غفير ويتسلئيل سيموتريش .. فإسرائيل لم تعد بالنسبة إليه سوى منصب رئاسة الحكومة، ومن دون نيله هذا المنصب، فإن كل حياته ستكون معرضة لمخاطر تدعيات اتهامه بالفساد القابلة للتدحرج باتجاه أن تصبح مآساة و”ماسادا” شخصية اسرائيلية له!!.
وبالنسبة للاسرائيليين، فإنه سيتم الآن أو في مدى قريب، اكتشاف مدى خطأ قانون منح الحصانة عن الارتكابات لموقع رئيس الحكومة، لأن هذا القانون يجعل رئاسة الحكومة ملجأ يقصده أصحاب النفوذ المتهمون من قبل القضاء بالفساد، حيث يبحثون فيه عن الحصانة بوجه القضاء، بأكثر من بحثهم عن قيادة الدولة العبرية نحو نجاتها من ازمتها التاريخية التي يحذر منها جيل جديد من قدماء اليساريين اليهود وطيف جديد ممن يعرفون بالمؤرخين الاسرائيليين الجدد..
ان بحث نتنياهو عن ملجأ الحصانة داخل موقع رئاسة الحكومة هو الذي دفعه لدفع اثمان سياسية باهظة وكارثية وغير متزنة لكل من يسهم في تحصين موقعه كرئيس للحكومة لأن ذلك يحصن حصانته بمواجهة القضاء الذي سيظل مكبلاً تجاهه طالما انه في موقع رئاسة الحكومة المحمي من المحاسبة.
وحال نتنياهو هذا اليوم، يضعه في مشهد العائد ليس فقط إلى رئاسة الحكومة بعد ان وقف نحو عام ونصف عند باب المعارضة، بل أيضاً العائد الى ملجأ الحصانة من ملاحقة القضاء له، وذلك بعد أن كان وقف نحو عام ونصف عند باب السجن.
وواقع الحال يقول ان الجهة الأكثر إفادة من هذا الوضع هي الأحزاب اليمنية الدينية المتطرفة الخارجة عن “نظام حياة الدولة” في إسرائيل؛ كونها بفضل تمتعها بالحصانة الدينية المتحفظ عليها من ثلاثة ارباع المجتمع الاسرائيلي، تتمتع بامتياز الاستثناء من الخدمة الالزامية في الجيش ومن نظام التعلم في الكتاب المدرسي المدني الاسرائيلي لصالح القراءة في كتابها المدرسي الديني..
..وبهذا المعنى فإن العلاقة الناشئة اليوم بين نتنياهو وأحزاب أقصى اليمين هي علاقة تتعدى شعار نتنياهو عن وحدة اليمين الإسرائيلي من أقصاه الى أقصاه، بل في الجوهر هي علاقة بين أحزاب تعيش خارج قوانين الدولة وبين رئيس حكومة هارب الى حصانة موقع رئاسة الحكومة من قضاء الدولة.
وعملياً يتمتع نتنياهو حالياً بحصانة الأحزاب الدينية التي أمنت له الحصول على أكثر من نصف عدد مقاعد الكنيست مما جعل حكومته شرعية وقائمة، وفي حال انسحب ايتمار بن غفير زعيم حركة المنصة اليهودية وسموتريش زعيم حركة الصهيونية الدينية من حكومة نتنياهو، فإن الأخير ليس فقط سيصبح خارج باب السلطة، بل أيضاً سيعود ليقف عند باب السجن.
.. ما حدث أمس بحق هو تحالف بين الخارجين عن النظام العام للدولة بفعل حصانتهم الدينية، وبين نتنياهو الخارج من دائرة قانون محاسبة الدولة له عن فساده بفعل حصانته الرسمية كرئيس حكومة.
وعليه فإن إسرائيل اليوم تتفاعل داخل “لعبة ابتزاز مغلقة” تقودها قوى حكومة أقصى اليمين التي حولت حصانة رئيس حكومة إلى ملجأ يحميها من روحية قوانين الدولة الخاصة بمكافحة الفساد والتمييز العنصري ولو الشكلي، والجنسي ضد المرأة، الخ..
وداخل لعبة الابتزاز المغلقة هذه، تبدو صورة إسرائيل الراهنة كالتالي: نتنياهو يبتز القضاء ويكبله من خلال عودته لحصانة رئاسة الحكومة.. وأحزاب أقصى اليمين المتهم بعضها بالإرهاب (بن غفير) وبعضها بالتطرف العنصري (يتسلئيل) وبعضها الآخر بالتمييز الجنسي (شاش – بن درعي )، تبتز نتنياهو من خلال تهديده بحرمانه من حصانة رئاسة الحكومة ان لم يدفع لها ثمناً باهظاً من حقائب حكومته.. وتيار اليمين الإسرائيلي المتطرف يبتز يمين الوسط وكل الدولة العبرية من خلال احتمائه بنتياهو الثعلب والملك الذي عاد للحكم من باب السجن، والذي هزم تحالف بايدن ويائير لابيت في الانتخابات الإسرائيلية الاخيرة ..
والواقع ان لعبة ان اليمين المتطرف يبتز الجميع داخل ملجأ حصانة رئاسة الحكومة، هي المعادلة التي تملأ حالياً الساحة السياسية الإسرائيلية؛ وفيما لو لم يتم إنتاج تسوية أخرى تؤمن إرساء الاستقرار السياسي الاسرائيلي المفقود الذي من أجله عقدت الانتخابات الأخيرة، وقبلها عقدت الانتخابات الأربعة الماضية؛ فإن اسرائيل ذاهبة لنوع من الطالبانية اليهودية الاسرائيلية المعزولة حتى من “شتاتها اليهودي” في العالم..
ان كل هذه التطورات التي انتجتها الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة تشي بأمر أساسي وهو ان مسيرة اسرائيل منذ عقدين للتوجه نحو اليمين ومن ثم نحو اقصى اليمين، لا يعكس بالعمق طبيعة تطور الحياة الديموقراطية في اسرائيل، بل يعبر عن مرض جيني تكويني ضرب بنية مشروع دولة اسرائيل، حسبما بدأ منظرو “المؤرخون الجديد” الاسرائيليون يعبرون عنه صراحة.
وهناك من الاسرائيليين في الكيان العبري وفي ما يسمى ب”الشتات اليهودي” من يعتبر ان وصول اسرائيل إلى حقبة حكومة اقصى اقصى اليمين، إنما هي شهادة عن صحة نظريات “المؤرخون الاسرائيليون الجدد” الذين يعتبرون ان طبيعة المشكلة التي تواجهها اسرائيل اليوم هي ذاتية وتتعلق “بخطيئة كنه المشروع الصهيوني” في فلسطين غير القابل للحياة الا بتسوية تاريخية بين اليهود والعرب الفلسطينيين.
.. ويعتبر هؤلاء استطراداً أن حكومة أقصى اليمين هي تعبير عن الوقوع في التحذير الاستراتيجي الذي أطلقه منذ سنوات “المؤرخون الجدد” بخصوص أمرين أساسيين اثنين:
الأول- أن إسرائيل باصرارها على بقاء احتلالها لشعب آخر يقيم على نفس الأرض، لم يعد لديها عملياً سوى خيار الذهاب للتطرف الاخلاقي والعقائدي والعنصرية الدينية واليمينية والارهابية.
والامر الثاني ان إسرائيل المصرة على عدم تصحيح نظرية انها خاضت في ال ٤٨ حرب استقلال للحصول على أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ستواجه مستقبلاً حقيقة التاريخ الذي يقول ان فلسطين لم تكن أرضاً بلا شعب، ولذلك فإن ما حدث عام ٤٨ هو ان اليهود احتلوا أرضاً يوجد عليها شعب آخر؛ وما حصل حينها لم يكن “حرب استقلال” بل حرب إجلاء شعب وبداية استعمار أرض.