الهديل

خاص الهديل: الحريري و”النادمون” والاعتياد على غياب الاعتدال..

خاص الهديل 

 

لا أحد في لبنان يُحصي عدد الأيام التي مرت على غياب سعد الحريري عن لبنان؛ والسبب أن البلد موجود في أزمة يأس، وفي حالة سبات سياسي عميق وكأنه في نومة أهل الكهف.. 

..وحتى الحريري ذاته، على ما يقال، ما عاد معنياً بإحصاء فترة غيابه عن بيروت، بل هو مع كل يوم جديد يمر على إقامته خارج لبنان، يصبح مقتنعاً أكثر بأن قراره بالإنقطاع المؤقت عن العمل السياسي كان صائباً. والحق يُقال أن الحريري كان مقتنعاً بأن الإنتخابات النيابية لن تغير شيئاً، وهي فعلاً لم تغير شيئاً.. وكان مقتنعا بأن البلد ينتظر تحولات خارجية، وهي أغلب الظن ستتأخر، ولو جاءت فهي لن تكون في مصلحة مشروع بناء الدولة.. وحتى الآن توضح التطورات الخارجية أن ما توقعه الحريري قد يكون بنسبة عالية، صحيحاً.

والملاحظ أن البلد اعتاد بسرعة غياب سعد الحريري عن المشهد السياسي، ولكن اللافت انه بنفس القوة اعتاد البلد أيضاً الفراغ السياسي الذي تركه الحريري وراءه داخل معادلة التوازن الطائفي؛ واعتاد أيضاً بقاء مكان الحريري خاوياً وعدم قدرة أحد على تعبئة الفراغ السني والوطني الذي تركه.. 

وهذا المعنى الذي يقول أن البلد اعتاد التعايش مع الفراغ الذي تركه الحريري، بمثلما أنه اعتاد غيابه، يبدو حالة غير مقرؤة سياسياً، رغم أن نتائجه واضحة، وهي تشير إلى أنه شيئاً فشيئاً يتحول فراغ الحريري من فراغ سني فقط، الى فراغ وطني يشكل خللاً بنيوياً في مجال قدرة الطوائف وأقطابها على انتاج تسويات فيما بينها لحكم البلد، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من اللااستقرار السياسي.. 

إن أحزاباً لبنانية كثيرة، اكتشفت بمفعول رجعي أنه بإنقطاع الحريري عن العمل السياسي، فقدت شريكاً سياسياً وسنياً لها كان وجوده يسهل عليها عملية انخراطها في التسويات لإعادة إنتاج دورها في الحكم والحكومات.. حزب الله، واحد من هذه الأحزاب الذي شعر بأن غياب الحريري شكّل له خسارة شريك سني حتى لو كان الحريري في الضفة السياسية الأخرى. 

 

والمقصود هنا بالتحديد، هو أن الحريري كان يؤدي خلال بروز الحاجة الملحة لتسويات بين الطوائف، دور “صلة الربط” بين ضفاف الطوائف المختلفة التي يتشكل منها الواقع السياسي اللبناني والواقع أنه يتم الآن، ولو بصمت وبنوع من المكابرة، إكتشاف أن أحداً غير الحريري على الصعيد الوطني والسني، لا يملك القيام بدور صلة الوصل بين ضفاف الطوائف المختلفة؛ وهذه الميزة التي يتفرد بها الحريري هي التي جعلت له مكانة “الشريك السني” و”الشريك الوطني” لخصومه وأصدقائه في الطوائف الأخرى على السواء، ولذلك فإن هؤلاء الأصدقاء والخصوم يصنفون اليوم في خانة “النادمون” على غياب الحريري عن الساحة السياسية في لبنان. 

..ومعروف أن الرئيس نبيه بري الذي يوصف بأنه يكاد يكون هو “الأمير” الذي تكلم عنه ميكافيلي، ولكن بخصوص إدارة الحكم في لبنان، لم يقتنع للحظة واحدة لا في الأمس ولا اليوم بأن هناك بديلاً للحريري في زعامة السنة أو بديلاً له كشريك سياسي تتقاطع عنده جميع احزاب الطوائف تقريباً، ويشكل في التسويات التي يحتاجها البلد دائماً دور “صلة وصل” أو “نقطة هدنة” أو “ربط نزاع” أو “التقاط نفس” أو “فترة انتقالية”، إلى ما هنالك من التسميات التي تناسب كل مرحلة والتي تعبر عن وقف التناكف السياسي، وشراء الوقت الصعب والتكاتف الوطني ولو المرحلي..  

ووليد جنبلاط كسالف عهد المختارة التي درجت على أن تبحث داخل معنى الدروز عن تاريخية العلاقة مع السنة على المستوى السياسي قبل المعنى الديني. ووليد جنبلاط على يقين بأن أفضل معادلة لجعل الدروز والسنة في حلف مستقر في لبنان، هو أن يكون عند السنة في لبنان؛ بمقابل جنبلاط في المختارة، سعد الحريري بعد رفيق الحريري. 

..حتى سمير جعجع اكتشف بعد فترة أخذ ورد أن شراكته مع الحريري لا يمكن تعويضها بشركاء من بيئة الوافدين الجدد على الحياة السياسية، ولا من متصدرين سنة داخل مناطقهم أو طامحين لسد فراغ الحريري.

 

إن ما يجدر استخلاصه بعد مرور هذه الفترة من انقطاع الحريري عن السياسة، هو أن الذين أرادوا غيابه السياسي، أو الذين اعتادوا غيابه السياسي، لم يجدوا بعد بديله السياسي، ولكن المفارقة هي أنه في لبنان يمكن العيش مع اللااستقرار، بحيث يصبح هو البديل للاستقرار !! وأن أحزاب لبنان يمكنها العيش مع الفراغ بكل أنواعه وليس فقط الفراغ الرئاسي.. 

 

والواقع أن كل هذه السمات اللصيقة بغياب سعد الحريري تثير الانطباع بعدة أمور، أولها أن الحريرية السياسية هي البيت السياسي الوحيد في لبنان الذي يمكنه أن يغلق دارته، ويلصق على بابها الموصد لوحة كتب عليها: “اقفال مؤقت”. 

حدث في الماضي أن أقفل صائب سلام دارته السياسية في المصيطبة، وهاجر لسنوات إلى أوروبا، وحينما عاد بعد تسوية إقليمية لوضعه، لم يعد لممارسة السياسة التي تركها لنجله تمام سلام الذي بدوره يقرر اليوم أن يهاجر من السياسة، ولكن ليس إلى أوروبا، بل داخل لبنان. 

إن الهجرة السنية من العمل السياسي المتمثلة بحزم اقطابها حقائبهم ومغادرة البلد نتيجة تغير الظروف أو نتيجة الرغبة بإنتظار ظروف قد تستجد، تتكرر بين فترة وأخرى؛ ولكن ما يميز هجرة أقطاب السنة عن هجرات أقطاب الطوائف الأخرى، هي أنها غالباً ما تتسم بأنها “هجرة للاعتدال الوطني” وليس “للاعتراض الطائفي” ولذلك فإن هذا النوع من الهجرات يتم بهدوء، وعلى طريقة “الانقلاب الأبيض”، أي من دون أن يؤدي إلى تحطيم أثاث البيت السني، رغم ما يصيبه من تبعثر يطال محتوياته؛ فيما هجرات سياسي الطوائف الأخرى تجري على صفيح ساخن في طوائفها.. فحينما هاجر بري مثلاً الى دمشق هرباً من وصول تسونامي تصدير ثورة الإمام الخميني إلى داخل شيعة لبنان حيث ولد حزب الله، حصلت هجرة بري حينها وسط صدام دامي بين حركة أمل وحزب الله.  

 

..ونفس الحال بالنسبة لهجرة أقطاب الموارنة التي تخلف عند حدوثها خراباً في الساحة المسيحية وحتى في الساحة اللبنانية بشكل عام، كمثال ما حدث قبيل هجرة عون إلى باريس، وقبيل تهجير جعجع إلى السجن.  

 

والواقع أن جميع الزعامات اللبنانية السياسية، يوجد في تاريخها فترات هجرة من العمل السياسي ومن لبنان، ولكن هجرة سعد الحريري تمتاز بأنها هجرة بدأت من باب انها اعتراض معتدل، وهي تتحول الآن إلى هجرة لدور الاعتدال السني المؤثر سلباً على تسوية انتظام كل معادلة اعتدال الطوائف.

Exit mobile version