الهديل

البدايات الصح

بقلم: شيخة غانم الكبيسي

عادة البدايات تُبرز مفاتنها، فتبهرنا بمذاقها المُستساغ لأحداثها المتسارعة، لنغوص بأعماق تفاصيلها متخطين كل البقع السوداء، ومتجاهلين بجهالة الإشارات الواضحة لمفارق الانعطافات المتلاحقة، سالكين أول الطريق للأخطاء والصراعات وغياهب الانتكاسات، لكونها معبرا رئيسيا للتجارب والاختبارات والكشف عن المجهول…

 

يملؤنا الإيمان والثقة بأنه مع الألم ينشأ الأمل، وما من محنة في وقت إلا وكانت سببا لمنحة غير معلومة. فقد يبدو ما نتمسك به الآن ظاهريًّا أمرًا لا مثيل له، وإنه صعب التكرار والحصول، ووجوده مصيري وفي غاية الأهمية، بينما يتضح مع مرور الوقت أنه لا يشكل قيمة المعنى الذي نبحث عنه أو أحلامنا المرجوة.

في الغالب، ما يضعنا بعيدين عن البدايات الصحيحة هو الوهم. وهم التملك، والتعلق، والشهرة، والسلطة، وهم الرغبة الملّحة وعدم الاستغناء، لذا لا شيء جدير بأن تخسر سنوات عمرك وتقاتل عليه حتى الأحلام والأهداف والحب. فما لا تستطيع اللحاق به أو تغييره دعه يذهب بهدوء، فمن المؤكد أن أي شيء مقدّر لك لن يذهب إلى قدر غيرك، فجرب أن تجاري الأيام بأحداثها، وتقبض على ما يمكنك اصطياده، وأعظم البدايات تلك التي يتصدّرها الأمل، على الرغم من كل الظلام المحيط.

نعم الأمل هو النظرة المستقبلية واليقين بأن ما هو قادم هو الأفضل، والتفاؤل، والإيجابية المستمرة والبعد عن النظرة السوداوية للأشياء والمعرفة والاقتناع بأن الله هو القادر على تغيير الأحوال وأنه لا حال سييء يدوم طويلاً وأنه بعد الصبر دائماً يأتي الجبر، وأنه لولا الأمل لأصبح كل شيء سلبيا، جافا، يعبر فقط عن النقاط السوداء داخل النفس البشرية ليس إلا.

 

أُحاول كثيراً أن امدّ الآخرين بالأمل مثل تزويدهم بالإيجابية المتيقنة بالله القادر على تبديل الأحوال واحاول إقناعهم بأن ما من شيء يدوم على طول الخط في سواد تام، فالأمل جعلني اتيقن بأن ما هو قادم هو الأفضل، وأن ما حدث في الماضي ليس النهاية ولكنه بداية لكل ما هو جديد.

ولكن لابد من نقطة ضوء تبدل هذا الظلام، فإن لم ترها ابداً فلا تُطيل الوقوف، عليك ان تكمل طريقك باتجاهات مختلفة حاملاً زاد الخبرة والتجربة لتكتشف خبايا الحياة وتخوض مغامراتها فتستزيد علماً من دروسها وتتقن فنون تقلباتها لتتخطى عواقبها بأقل الخسائر.

 

لتبدأ بداية جديدة مدروسة نابعة من أهداف مركّزة وفكر متيقظ، تتبعها غايات سامية ويصحبها وعي عالٍ، البدايات الصحيحة محاولات لأن نسلك الوجهة السليمة، ففي نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح.

 

ومن مؤشرات صحة البداية سلاسة مجريات الأمور ولا يقصد هنا السرعة بل سهولة تسلسل الأحداث وتناغمها مع أهدافك وقناعاتك، كما أن وضوح المسارات بعيداً عن الغموض – النصوص المفقودة لتساؤلات عقيمة الإجابة – والمنسجمة مع ارتياحك الداخلي من المتطلبات الأساسية لبدايات صغيرة تخلق نجاحات كبيرة.

وهنا لا بد أن نعرف أن النجاح لا يولد معنا بل نصنعه بأنفسنا، نكتبه بأيدينا ونرسم المستقبل بفرشاة كسرت مائة مرة ومرة وبعد كل مرة تعود أقوى من قبلها، هكذا يصنع النجاح.

 

ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن نجاحك سيكون مضموناً، فذلك يرجع إلى اجتهادك، وخطواتك الصحيحة، وحجم إنجازك، والمغامرة في التجارب الجريئة، وتعلّمك من خبراتك السابقة.

 

كوِّن شخصيتك المستقلة وفكرك المستقل وعملك المميز وعالمك الخاص، كن أنت نفسك فلا عيب في البداية الخاطئة، فكيف لا تتعلم إذا لم تخطئ! ولكن استقلَّ بذاتك، وحدد أولوياتك والأشخاص الذين يرافقونك مشاوير ترحالك، ودائماً تساءل عن مدى حاجتك لوجودهم؟ ما هو دورهم؟ ماذا لو استغنيت عنهم؟ لتحدد من الذي يستحق البقاء ومن الاستغناء عنه مربحاً.

 

إن الإجابة على أسئلة جوهرية مثل هذه تكشف لنا الحياة التي نريد، وتمنحنا خيط البدايات الصحيحة، وتختصر لنا مهمّات كبيرة، وترفع عنا الكلفة، وتزيد من دائرة وعينا؛ لنعيش ببساطة وخفة مغلفة بحياة عميقة بعيدة عن التشتت والسطحية. فحينما تدرك كيف تفكر، عندها سترزق ببداية جديدة.

ولنتذكر، أنه ليس هنالك قطار فائت، ولا عمر محدد لانطلاق البدايات، الوقت كل الوقت لك، متى ما أدركت الرسالة ابدأ.

 

وإن لم تتمكن من أن تعود إلى الوراء لتصنع بداية جديدة لبعض الأمور العالقة، إلّا أنّه يمكنك أن تبدأ من الآن ومع بداية هذا العام الجديد في صناعة نهايات جميلة من بدايات صحيحة صغيرة.

 

 

Exit mobile version