الهديل

أين يقع أردوغان والاعتبارات الجيو-سياسية في الانتخابات الرئاسية التركية؟

كتبت راغدة درغام في “النهار العربي”:

 

مَن الذي يخاف مِن رجب طيب أردوغان؟ رجل الحلم بتركيا العظمى يخطط للفوز بولاية أخرى من الرئاسة التركية في انتخابات الربيع التي لن تكون محليّة حصراً وإنما ستكون انتخابات جغرافية – سياسية بامتياز. فمن يريد له الفوز ومن يخشى مِن فوزه؟

 

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقع في مقدّمة الذين يحتاجون استمرارية أردوغان في الرئاسة لأسباب مصيرية لروسيا. فالسيد بوتين رَهَنَ العلاقة الروسية – التركية بالسيد أردوغان شخصياً وهو اليوم في أشد الحاجة اليه بسبب الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية. المسألة ليست مجرّد سياسية بل إنها وجودية اقتصادياً لروسيا. رغم العلاقة المعقّدة بين الرجلين، فلاديمير بوتين يخاف من رجب طيب أردوغان من ناحية غيابه وليس من ناحية حضوره.

 

القيادات الأوروبية تخاف من رجب طيّب أردوغان بسبب عنجهية شخصيته وسياساته التي تعتبرها استفزازية واستغلالية، بدءاً بالعلاقة مع اليونان وانتهاءً بورقة تيسيره هجرة اللاجئين الى أوروبا.

 

الولايات المتحدة، إدارةً وكونغرساً، تخشى أن يفوز أردوغان بولاية أخرى تحوّله الى السلطان العثماني الذي يصبو اليه في الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية وآسيا الوسطى والقوقاز وفي أوروبا عبر البوابة الروسية. والأهم، أنه بات اليوم السكّين في خاصرة حلف شمال الأطلسي (ناتو) وأصبح المتمرِّد العَصيّ الذي لا يتلاءم مع “ثقافة” حلف شمال الأطلسي.

 

القيادة الإيرانية تخاف من رجب طيب أردوغان لأن مشاريعه تتحدّى المشاريع الإيرانية إقليمياً، ولأن المنافسة على القيادة الإقليمية حقيقية. طهران لا تريد لأنقرة التوسّع على حسابها في الجغرافيا العربية وهي ترى في أردوغان خطراً تخشاه وتخافه كثيراً.

 

القيادات العربية لا تثق برجب طيب أردوغان ولا بانفصاله المزعوم عن مشروع “الإخوان المسلمين” الذي يهددها. إنها تتهادن معه وتسعى الى فتح صفحة جديدة كتلك بين مصر والدول الخليجية العربية وبين تركيا. لكنها تعي من هو أردوغان وما هي طموحاته الإقليمية وتخافه.

 

إسرائيل ذاقت تقلّبات أردوغان وتعتبره الصديق الدائم لحركة “حماس” وتراه مخرِّباً لمشاريعها الممتدة من سوريا الى السودان.

 

مشاكل العراق مع تركيا أردوغان سياديّة ببعدها الكردي كما بسلامة وحدة أراضيها. لذلك تخافه. سوريا تخشاه لربما بقدرٍ أكبر لما يشكِّله من خطر على أراضيها، وعبر دعمه جهات إرهابية، ونتيجة حاجة بوتين اليه وانعكاساتها سورياً.

 

فرجب طيب أردوغان يشكّل اليوم تحدّياً للجميع، ولذلك ان الانتخابات الرئاسية التركية لم تعد محليّة حصراً وإنما هي جيو-سياسية.

 

الخاسر الأكبر من خسارة أردوغان في الانتخابات التركية هو روسيا لأن الاقتصاد الروسي بات مرتبطاً بشخص الرئيس التركي. فإذا انهزم في الانتخابات، انهار الاقتصاد الروسي الذي يعتمد اليوم بشكل شبه كليّ على التجارة غير الشرعية عبر تركيا بما فيها الصادرات النفطية ومرور الناقلات والتكنولوجيا وغيرها في أعقاب العقوبات الأوروبية والأميركية على روسيا. فلقد تضاعفت موازين التبادل التجاري بين البلدين منذ الحرب الأوكرانية وتضاعف معها الغضب الغربي من الدفء المتزايد بين البلدين وبين القيادتين حتى ولو كان تفاهماً مرحلياً.

 

بالنسبة الى فلاديمير بوتين، إن انهزام رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية يعني هزيمة لسياساته هو، الإقليمية والدولية، بعدما بات الرئيس التركي القناة الحيويّة للرئيس الروسي اقتصادياً وسياسياً. ثم أن أردوغان أصبح اليوم شريكاً نادراً لبوتين، الى جانب شريكه في هنغاريا رئيس الوزراء فيكتور أوربان، في زمن إصرار الغرب على عزلته عالمياً. وهذا يُغضب الغرب ويجعله يخاف من فوز أردوغان في الانتخابات الربيعية.

 

الولايات المتحدة غاضبة لأن الرئيس التركي ينقذ الرئيس الروسي من العقوبات وهي اليوم تهدّده بفرض عقوبات ثانوية على تركيا إذا لم يتوقف عن التجارة غير الشرعية مع روسيا. في وسع واشنطن إلحاق الأذى الخارق بالاقتصاد التركي إذا ما فرضت عقوبات مالية وأقفلت الباب أمام المداولات المصرفية مع تركيا. هذه خطوة كبيرة من شأنها أن تدمّر الاقتصاد التركي الهش. الرئيس التركي يبدو واثقاً بأن هذا لن يحدث، وإن حدث فإنه سيوظّفه لمصلحته انتخابياً من خلال اتهام الولايات المتحدة بالعداء نحو تركيا.

 

الاجتماع الأخير لوزراء دفاع روسيا وتركيا وسوريا في موسكو أثار حفيظة الإدارة الأميركية وأطلق حملة ضد التطبيع مع الرئيس السوري بشار الأسد فيما الغضب الحقيقي كان موجهاً ضد الرئيس التركي الذي قرّر أن ذلك اللقاء فائق الأهمية لاعتباراته الانتخابية.

 

ما سعى وراءه أردوغان هو صفقة تمكّنه من الخروج من الزاوية التي زجّ نفسه فيها بعدما كابر وتعهّد بعمليات عسكرية داخل الأراضي السورية لفرض حزام أمني لتركيا. أدرك خطورة مثل هذه العمليات على حملته الانتخابية وإمكان فشلها، فبحث عن مخرج.

 

وبحسب المصادر المطلِعة، طلب أردوغان ضمانات قاطعة من موسكو بأن روسيا وسوريا لن تسبّبا لتركيا مشاكل تتطلّب منه القيام بعمليات عسكرية داخل سوريا. طلب ضمانات بالحفاظ على الوضع الراهن لفترة الستة أشهر المقبلة الى حين عقد الانتخابات. هكذا يمكن له أن يقدم التفاهمات والضمانات على أنها انتصار لسياساته، وهكذا تكون ذخيرة مفيدة جداً في الانتخابات الرئاسية.

 

بوتين سيلبّي أردوغان لأنه في حاجة اليه ولأن الانتخابات التركية أصبحت من أولوياته. دوره كوسيط بين القيادتين الروسية والأوكرانية مهمّ للرئيس الروسي، إنما الأهم هو دور أردوغان كمخرِّب داخل حلف الناتو. فهو اليوم عنصر في المشهد الجغرافي – السياسي العالمي وهو أيضاً فاعل في المشهد الإقليمي بعامة، لا سيّما في سوريا. وبالتالي، إن التغيير في القيادة التركية هو تغيير في المعادلة الجيو-سياسية. ولذلك إن الانتخابات التركية ستكون في الحسابات الدولية.

 

هكذا تنظر أوروبا أيضاً الى الانتخابات التركية. شخصية رجب طيّب أردوغان باتت عنصراً في المعادلة الجغرافية – السياسية. غروره يثير الاستياء والإزعاج، إنما ما يثير الخوف هو أدواته. ثم أن إزاحة أردوغان عن الرئاسة التركية ستؤدّي الى إضعاف فلاديمير بوتين، أقلّه في نظر واشنطن والعواصم الأوروبية. ولذلك يتمنى الغرب خسارة أردوغان الانتخابات الرئاسية.

 

الدول العربية تحاول ألّا تتدخل في الانتخابات التركية. تفضّل أن تطبّق المثل القائل “إبعد عن الشر وغنّي له”. أي إن ما تريده هو “كف الشر” عنها، ولذلك تتجاوب مع مفاتحاته التمهيدية لعلاقات سلميّة. لكن القيادات العربية بمعظمها لا تثق بأن السيد أردوغان قد أنهى مشروعه مع “الإخوان المسلمين” لأن “الإخوان المسلمين” جزء أساسي من برنامج طموحاته الكبرى لتركيا العظمى.

 

مرحلياً، يناسب أردوغان “تنويم” الورقة “الإخوانية” موقتاً مع اتخاذ كل الاستعدادات لإيقاظها عندما يحين الوقت، عاجلاً أو آجلاً. فمصيرهم مرتبط بمصيره، ومصيره مرتبط بمصير “الإخوان المسلمين” في مشهد القيادة “العثمانية” الإقليمية والدولية والتي هي بدورها مرتبطة بشخص رجل اسمه رجب طيب أردوغان.

 

الشعب التركي هو الذي سيقرّر مصير أردوغان ومستقبل تركيا. بالأمس كان أردوغان لاعباً أضعف، بل كان في فترة ما لاعباً ضعيفاً. اليوم رجب طيب أردوغان في صلب المعادلة الجيو-سياسية، ليس فقط لأنه سياسي محترف ومحنّك سياسياً تمكّن من احتواء المؤسسة العسكرية التركية التي لا تريده، وإنما أيضاً لأن الحظ حالفه بسبب وقوع الحرب الأوكرانية.

 

عضوية تركيا في حلف الناتو كانت دوماً موضع توتّر لبقية الدول الأعضاء التي وجدت في تركيا، بالذات في تركيا – أردوغان طائراً يغرّد في غير سربه. فالرئيس التركي فرض توجّهاً جديداً على تركيا العلمانية وحوّلها الى دولة أكثر إسلامية مما هي علمانية رغم معارضة جزء كبير من الشعب التركي لهذا التوجّه. وهو انخرط مع روسيا في لعبة صفقات الأسلحة التي تعرِّض أمن دول الناتو للخطر، فاحتجّت واشنطن واتخذت إجراءات رافقت الاحتجاجات الأوروبية على سياسات أردوغان نحو أوروبا التي يهددها بفتح أبواب تدفّق الهجرة اليها عبر الحدود التركية.

 

مع انحراف مواقف تركيا بعيداً من الإجماع داخل صفوف الناتو نحو حرب روسيا على أوكرانيا، ازداد القلق الغربي من الرئيس التركي. لكن رجب طيب أردوغان وظّف الحرب الأوكرانية لمصلحته عبر “صفقة الحبوب” من أجل الأمن الغذائي التي لاقت التصفيق والترحيب العالميين، وعبر محاولات الوساطة بين الرئيسين الروسي والأوكراني.

 

الأهم أن رجب طيب أردوغان أعاد اختراع العضوية التركية في حلف شمال الأطلسي، وأعاد اختراع شخصية المتمرِّد العصيّ على الغرب لخدمة حملته الانتخابية، وأعاد اختراع موازين علاقاته مع نظيره الروسي بحيث بات فلاديمير بوتين الى حد كبير تحت رحمته بينما كان في الأمس القريب متعالياً عليه.

 

لكل هذه الأسباب، يراقب الجميع الانتخابات الرئاسية التركية لاعتبارات جيو-سياسية. فهي أحد أبرز الأحداث التي قد تصبح مصيرية، ليس فقط لتركيا وموقعها العالمي، وإنما بالذات لروسيا التي تحوّلت من طاووس على الساحة العالمية الى طائر مكسور يحتاج جناحاً إيرانياً عسكرياً وجناحاً تركياً اقتصادياً كي يحلم بأن يتمكّن لاحقاً من التحليق

Exit mobile version