الهديل

خاص الهديل : هذا ما أرادته انتفاضة ١٧ تشرين ٢٠١٩: “إسجن نفسك!!”

خاص الهديل:

يمكن اليوم وبعد نحو ٣ سنوات، أن نعيد التذكير بثورة ١٧ تشرين ٢٠١٩..

هناك حاجة لعدم نسيان ما حدث.. فثورة أو حراك أو انتفاضة ١٧ تشرين كانت صحوة وعي سلمية حقيقية، وكانت فرصة وطنية خسرها البلد الى حين.

بمفعول رجعي تستمر أحزاب السلطة بالإعلان عن فشل الانتفاضة، وبرميها بتهم شتى أبرزها أنها لم تكن حراكاً يعبر عن الناس، بل كان حراكاً مخططاً من السفارات وفي مقدمها السفارة الأميركية؟؟

التهمة الثانية أنها كانت فوضوية، بدليل أنه لم يكن لديها قيادة موحدة!!

التهمة الثالثة أنه لم يكن لديها برنامج عمل ومطالب واضحة!!!

أولاً- بخصوص أنها حراك مدفوع من السفارات، وبخاصة السفارة الاميركية؟؟

إن فكرة انتفاضة ١٧ تشرين الأساسية التي لم يتم التوقف ملياً عندها، والتي لم يتم نشر الوعي بها، بسيطة وسلمية وحضارية وتخلو من أية نزعات انتهازية.

…ببساطة نزل الناس إلى الشوارع بسبب تردي الأوضاع المعيشية على نحو موجع.. وخلال الفترة الأولى من التظاهرات في وسط العاصمة وفي ساحة صيدا وساحة طرابلس، الخ.. كانت الصحافة توجه سؤالاً مقصوداً للمواطن المشارك في التظاهرات: لماذا قررت النزول إلى الشارع؟؟

كان مواطن يجيب بأن والدته مريضة ولا يملك ثمن الدواء. ومواطن آخر يجيب: لأنني عاطل عن العمل.. وثالث يجيب: لأني لا أملك ثمن قسط مدرسة ابني.. ورابع: لأن الطبقة السياسية سرقت البلد، الخ.. 

كل مواطن من المشاركين كان يذكر سبباً مباشراً دفعه للمشاركة.. ولكن الجميع نزلوا إلى الشارع، بسبب الوجع الذي يشعرون به، واللاحق بهم من جراء فساد الطبقة السياسية الحاكمة التي حدد المتظاهرون أطرافها عبر شعار “كلن يعني كلن”.

كانت إجابات المواطنين عن سبب نزولهم إلى الشارع هي أوضح رد على الذين قالوا أن هناك جهة سياسية أو أجهزة استخبارات أو سفارة تقف وراء انتفاضة الناس ووراء نزولهم الى الشارع!!

…لو كان الأمر كذلك، لكان المواطنون يذكرون سبباً واحداً وراء نزولهم إلى الشارع، وهو السبب الذي قالته لهم الجهة المفترض أنها طلبت منهم النزول الى الشارع والمشاركة بالانتفاضة. ولكن المواطنين خلال سؤالهم عن سبب مشاركتهم في الانتفاضة، كان كل مواطن منهم يذكر سبب وجعه الشخصي الذي دفعه للانتفاضة ولإعلان غضبه. وهذه الأسباب هي يوميات معاناة الناس على كل الصعد.

الواقع أن تلقائية انتفاضة ١٧ تشرين ٢٠١٩ كانت واضحة للعيان؛ ويمكن تبيسط السؤال الإيضاحي: لو أن هناك شخصاً يشكو من ألم حاد في معدته، فهل هو بحاجة كي يطلب منه أحد الذهاب إلى الطبيب، أم أن وجعه هو الذي سيجعله يذهب للطبيب؟؟..

…الوجع هو الذي يرشد صاحبه لطلب العلاج. ومن أرشد المواطن في ١٧ تشرين، إلى الانتفاضة والنزول إلى الشارع هو وجعه المعيشي فقط، وليس السفارات أو أجهزة المخابرات…

ثانياً- بخصوص أنها كانت انتفاضة فوضوية وليس لها قيادة ولا برنامج سياسي موحد؟؟

حينما طلب الرئيس ميشال عون من المنتفضين في الشوارع تشكيل وفد يمثلهم للتفاوض معه، أجابوه أنه ليس لدينا وفد يمثلنا، فنحن لسنا حزباً أو تياراً أو حركة سياسية.

رد عون بعصبية قائلاً: إذا كانوا لا يريدون الحوار معي، فأنا أيضاً لا أريد الحوار معهم.. وإذا كانوا لا يعترفون بي كرئيس للدولة، فأنا لن أعترف بهم كحراك شعبي.

لم يفهم عون حينها – وحالياً أيضاً – إجابة المواطنين المنتفضين، فهم حقاً ليسوا حزباً ولا تياراً ولا حركة سياسية.. وهم كانوا صادقين عندما قالو له أنه ليس لديهم وفداً يمثلهم.

وتساءلت أحزاب السلطة حينها بدهاء وببلاهة: إذا لم يكن لدى المحتجين وفداً يمثلهم، فمع من سيتفاوض عون حتى تحقق الدولة ما يطلبه الناس والمنتفضون؟؟

أجاب المتظاهرون: يمكن للرئيس عون إن كان جاداً أن يتفاوض مع “مطالب الانتفاضة”.. فمطالب الانتفاضة واضحة، ويقولها المواطن كل يوم: الدواء والمدرسة والكهرباء والمحاسبة وأموال المودعين، وحكومة انتقالية غير حزبية ومستقلة إلا عن مطالب الناس، تقوم بوقف الفساد وإبعاد الفاسدين ليحل مكانهم مصلحون في الإدارة، الخ.. من مطالب الناس الواضحة .. 

…ببساطة كانت رسالة الانتفاضة واضحة وهي: إن “مطالب المحتجين هي وفد الانتفاضة”. ولتتفاوض الدولة مع وفد مطالب الانتفاضة.

بعض أحزاب السلطة فهم جيداً معنى هذا النوع الذكي من الثورات؛ ولذلك أصبح أكثر حذراً تجاهها، وأكثر شراسة في قمعها وأكثر قناعة بضرورة إجهاضها من داخلها بالنسبة للبعض وبقمعها بالنسبة للبعض الآخر، وباحتوائها ثم الانقضاض عليها بالنسبة للبعض الثالث. وأخطر ما قرأته هذه الأحزاب بالانتفاضة هي أنها عملياً تقول للطبقة السياسية: افسحي المجال لأشخاص صالحين ليحلوا مكانك، وأنها تقول للفاسد: افتح باب السجن بنفسك، وادخل إلى زنزناتك!!

خارطة عمل المحتجين هي التالية: المنتفضون ليس لديهم إسم مرشح لرئاسة الحكومة، بل هم يتركون لرئيس الجمهورية ولمجلس نواب الأحزاب، اختيار رئيس حكومة، ولكن المحتجين لديهم مواصفات لرئيس الحكومة الذي سيعطونه ثقتهم، وهو أن لا يكون فاسداً أو تابعاً لأحزاب الفساد..

وعليه قال المحتجون لأقطاب الطبقة السياسية الحاكمة: اختاروا أنتم رئيساً للحكومة، ونحن سنؤيده إذا كان شخصه لديه مواصفاتنا ..

…وكانت الفكرة هي أنه لو تحقق مطلب الانتفاضة باختيار رئيس حكومة إصلاحي وآدمي ومستقل؛ فإن هذا الأخير مؤيداً بضغط الشارع، سيسمي وزراء أوادم ونظيفي الكف ومستقلين إلا عن مطالب الناس ..

وكانت الانتفاضة ستنتقل هنا للخطوة الثانية وتقول لرئيس الحكومة الآدمي ولأحزاب مجلس النواب: نحن ليس لدينا وزراء يمثلونا، فلتختاروا الوزراء الأوادم غير الحزبيين والذين لا يرتشون ولا يدخلون في صفقات؛ والانتفاضة ستؤيدهم..

…وفي حال سار رئيس الحكومة الآدمي بمطلب الانتفاضة، وفرض تسمية وزراء مستقلين وأنقياء الكف، فحينها سيفتح وزير العدل الجديد الآدمي دفاتر فساد وزراء الطبقة السياسية؛ وسيمنع وزير الأشغال العامة الجديد الآدمي ملف المحاسبة عن السمسرات في الالتزامات العامة، الخ..

وبهذه الطريقة سوف تقوم الطبقة السياسية بإنهاء حكمها بنفسها.. وحتى الأحزاب نفسها المسؤولة قياداتها عن الانهيار والفساد، سوف تقول لها الانتفاضة: أيتها الأحزاب ليس لدينا مشكلة مع قواعدك الاجتماعية، وعندما تنتفض هذه القواعد على قادة أحزابها الفاسدين وتستبدلهم بالكفاءات المخلصة والاصلاحية، فإن هذه الأحزاب ستصبح جزءاً من انتفاضة انقاذ البلد..

هذه الطريقة التي تعتمد على تغيير السلطة من داخلها، تقوم على تحقيق مبدأ جعل الطبقة الحاكمة والمستأثرة بالدولة مضطرة تحت ضغط الشارع، لأن تفاوض “وفد الانتفاضة” الذي هو “مطالب الانتفاضة”، فيما جماهير الانتفاضة يتزعهما زعيم واحد، وهو وعي جماعي بحرص الانتفاضة على حماية تحقيق مطالبها من خلال مواكبة فكرة التدرج باستبدال الفاسدين بإصلاحيين داخل الدولة والحكومة والأحزاب والنقابات والإعلام، وحتى رمزياً في لجان الأبنية الأهلية.

وكان الهدف أن تستمر الانتفاضة بالسعي وراء مهمة إصلاح النظام من داخله بالتدرج، ومن دون ولادة زعماء طفيليين، بل كل المطلوب هو الوصول الى وضع يصبح فيه مجرد وصول إصلاحي إلى أي موقع في الدولة، أشبه ببلاغ يقول للفاسد الذي كان مكانه “اسجن نفسك”..

ما فعلته أحزاب السلطة هي أنها التفت على إستراتيجية الثورة هذه، واكتشفت مبكراً أن صراعها مع الانتفاضة هو صراع وجودي وقررت سحقها.. وهذا ما يفسر أن هناك العشرات من الذين تعرضوا لإصابات مستديمة بفعل القمع الحزبي والرسمي الذي تعرض له المحتجون.

على مدى أكثر من عام حاولت الطبقة السياسية أن تهرب من شبح إسجن نفسك.. ورغم أنها تتقصد الإيحاء اليوم بأنها انتصرت على حركة الاحتجاج، إلا أنها لا تزال تنظر حولها بحذر وتسمع تراجيع صوت الاحتجاج ذاته: “إسجن نفسك”..

Exit mobile version