الهديل

خاص الهديل: “الشهابية السياسية المتجددة”: “مناقبية اصلاحية مدنية” وليست “نزعة انقلابية”

خاص الهديل:

 

منذ إعلان استقلال لبنان حتى اليوم، جاء ٤ ضباط إلى رئاسة الجمهورية: فؤاد شهاب واميل لحود وميشال سليمان وميشال عون، وكاد أن يصل أيضاً الضابط جان قهوجي؛ والآن هناك احتمال أن يصل الضابط جوزاف عون، أو قد يصل ضمن معادلة أخرى الضابط جورج خوري.

والواقع أن أحداً في لبنان لا يريد أن يصبح الضباط هم المصنّع الذي يُنتج رؤساء الجمهورية في بلد الأرز؛ ولو سألت اليوم العماد ميشال سليمان عن تجربة ضباط الجيش مع رئاسة الجمهورية، ستجده غير متحمس لاستمرار أن يكون رئيس الجمهورية من بيئة ضباط الجيش أو قادة اليرزة.. حتى فؤاد شهاب ذاته اعتكف غير مرة، وأصيب بالإكتئاب مرات عدة، حينما كان رئيساً للجمهورية، ورفض التمديد لنفسه، وفضل أن يتم إكمال معنى عهده بشهابيين مدنيين وليس بشهابيين عسكريين؛ فاختار الصحافي والمثقف الشهابي بيار الحلو، ومن ثم اختار الشهابيون المصرفي الشهابي الشفاف الياس سركيس ليكونا رئيسين للجمهورية من سلالة العهد الشهابي الذي بدأ بعسكري وبضابط من الجيش.

وحينما قرر الأميركيون السير بترشيح قائد الجيش فؤاد شهاب لرئاسة الجمهورية، سأل السفير الأميركي ريمون ادة عن موقفه؛ فأجابه: اعتراضي ليس على فؤاد شهاب، بل على إيجاد سابقة تؤسس لأن يصبح كل قادة الجيش في لبنان مرشحين دائمين لرئاسة الجمهورية.

الواقع أنه آنذاك، وأيضاً الآن، هناك عقدة لدى النخب الليبرالية اللبنانية من قصة الانقلابات العسكرية في المنطقة، ونوع من التوجس أن يحدث في لبنان ذاك “السيناريو المقيت” الذي ساد لفترة في المنطقة، وهو أن يصل ضباط الجيش الى الحكم عن طريق الانقلاب العسكري والبلاغ رقم واحد ..

في خلال النصف الثاني من القرن الماضي، كانت جيوش المنطقة هي الممثلة الأكبر للطبقة الوسطى العربية؛ وشكلت رافعة اجتماعية لعملية التغيير؛ وكانت الإنقلابات بالنسبة إليها هي الوسيلة الوحيدة لإنهاء العهود الملكية أو العائلية أو التقليدية. ولكن الجيوش لم تكن مؤهلة لإنشاء ديموقراطيات في بلدانها بعد استلامها الحكم، بل انشأت ديكتاتوريات وطنية شمولية.

هذا النموذج من حكم العسكر، لم يكن وارد الحصول في لبنان، واحتمى السياسيون وراء تركيبة البلد الطائفية من احتمالات أن تنتقل عدوى الانقلابات العسكرية من دول المنطقة المجاورة والقريبة إلى لبنان.. وصار هناك ثقافة في لبنان مسلّم بها داخل المستوى السياسي وأيضاً داخل المستوى العسكري؛ ومفادها أن الإنقلابات العسكرية لا تناسب لبنان.. وحتى قائد الجيش العماد جوزاف عون اعتاد أن يرد على المتحمسين لفكرة أن يسيطر الجيش على البلد ليخلص الناس من طبقة الفساد السياسية؛ بأن تركيبة البلد الطائفية من ناحية وإيمان الجيش بالديموقراطية؛ لا يسمحان بحدوث انقلابات عسكرية.

… ولكن الجيش في لبنان وجد طريقه ليكون أيضاً له حصة في التنافس على رأس السلطة من خلال إظهار أن لديه “مناقبية اصلاحية مدنية”، وليس “نزعة انقلابية عسكرية”. وخلال بدايات عهده، طبق فؤاد شهاب بامتياز مقولة المناقبية الإصلاحية المدنية؛ رغم أن ضباط المكتب الثاني الشهابيين أخذوا عهد شهاب في فتراته الأخيرة الى شيء من محاكاة الأنظمة الاستخباراتية العربية. وبرر آنذاك ضباط الشهابية الحالة البوليسية التي أشاعوها في البلد بأنهم كانوا في حرب مع مؤامرة يسارية – فلسطينية تعمل للإطاحة بهوية لبنان وبنظامه الليبرالي الديموقراطي. 

وبالمحصلة فإن استعراض قصة الجيش ورئاسة الجمهورية في لبنان؛ تفضي إلى استنتاجات عميقة، أهمها:

الاستنتاج الأول يفيد بأن تجربة فؤاد شهاب تخللها جانب استخباراتي قام به من عُرفوا آنذاك بضباط المكتب الثاني.. ولكن التجربة الشهابية قدمت للبنان في شقها الأهم، مشروع بناء مؤسسات الدولة.. ففي عهد فؤاد شهاب تم بناء ثلاثة أرباع مؤسسات الدولة الوطنية. ولا يختلف اثنان في لبنان من كل الطوائف، على أن أفضل عهد رئاسي قام ببناء هياكل ومؤسسات الدولة الوطنية، كان عهد فؤاد شهاب الذي على زمنه وصلت الكهرباء إلى أبعد نقطة في عكار وفي الجنوب، مدشناً بذلك بدء تطبيق عدالة الإنماء المتوازن من جهة، ومن جهة ثانية تدشين رؤية بناء مؤسسات الدولة التي تؤمن للمواطن الخدمات والعلاقة المواطنية الصحيحة بالدولة.

الاستنتاج الثاني هو أن البلد لا يزال يحتاج إلى “نيو شهابية” تقوم بإكمال ما قام به فؤاد شهاب على مستوى إتمام إنجاز مشروع الدولة.. ففؤاد شهاب مرحلة مستمرة بتاريخ لبنان، لأنه مثّل نهجاً متصلاً في عهد لا يزال له صداه المعنوي وله إنجازاته التي رسخت بنيان مؤسسات الدولة الوطنية؛ في وقت أدت فيها تجربة الأحزاب مع الحكم إلى بروز نزوعها لاستبدال مشروع الدولة الوطنية التي بناها شهاب، بمشروع المزرعة الطائفية، وحولت علاقة المواطن بالدولة من علاقة مواطنة، إلى علاقة ريعية.

Exit mobile version