خاص الهديل:
تم أمس تأجيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية التي لو عقدت لكان ترتيبها سيكون الجلسة الـ١١.
ليس أمراً من دون دلالات أن تجري في أي بلد ديموقراطي، ١١ محاولة لانتخاب رئيس جمهورية من دون فائدة. إن الإستنتاج الأكثر شيوعاً تعليقاً على مثل هذه الحالات، هو أن السبب يعود لوجود “أزمة تداول السلطة”؛ بمعنى أن العملية الإنتخابية لم تعد تستطيع حسم الخلافات الداخلية ديموقراطياً.
وفي البلدان الأكثر ديموقراطية – أو التي يسمونها بالديموقراطيات العريقة – يتم في حالة حصول أزمة تداول للسلطة، الذهاب لانتخابات ثانية وثالثة (الخ،..)، حتى يتم بواسطة الديموقراطية إصلاح خلل تداول السلطة، أي وفق طريقة “وداوني بالتي كانت هي الداء”؛ أم في بلدان العالم الثالث، فإن أزمة تداول السلطة يتم حلها بآليات العنف، أي بالذهاب إلى الإحتراب الداخلي..
والواقع أنه ليس فقط في لبنان أدت نتائج الإنتخابات إلى رسم خارطة سياسية في البرلمان لا تسهم في تحقيق استقرار سياسي؛ بل في تشظي سياسي وتعثر لمبدأ تداول السلطة؛ ففي إسرائيل يحصل منذ نحو أربع سنوات نفس هذا الأمر، حيث جرت نحو خمس انتخابات مبكرة، وكل واحدة منها أسفرت عن نفس النتيجة الاساسية، وهي الذهاب إلى انتخابات مبكرة جديدة.. والسبب هو السبب ذاته الموجود في لبنان، أي تشظي الانقسام السياسي ليس فقط عامودياً بين يمين ويسار، بل أيضاً أفقياً بين يمين وسط (لابيد وبينت) وأقصى اليمين (بن غفير وجماعته)، ما يحول دون تشكيل حكومة ائتلافية قادرة على الحكم لفترة تتعدى الأشهر.. ونفس هذه المشكلة التي تؤدي إلى جعل الإنتخابات لا تكفي لتحقيق استقرار سياسي يسمح بتداول السلطة بشكل سلس وديموقراطي، حصل مشهد يعبر عنها، قبل أيام، في الكونغرس الأميركي الذي فشل نحو ١٠ مرات في انتخاب رئيس له، وذلك أيضاً بسبب تشظي الإنقسام السياسي بداخله ليس فقط عامودياً بين الجمهوري والديموقراطي، بل أيضاً أفقياً بين الجمهوريين من جماعة ترامب والجمهوريين من خصوم ترامب.
إن الرئيس نبيه بعد فشل الكونغرس الأميركي لعشر مرات في انتخاب رئيسه، يستطيع القول لمنتقدي تكرار عقد جلسات عدم انتخاب فخامة الرئيس، إن برلمان ساحة النجمة ليس أعرق ديموقراطياً من الكونغرس الأميركي، ومع ذلك فإن ما يحدث عندنا من تعثر جلسات انتخاب فخامة الرئيس يحدث عندهم بخصوص مواجهة صعوبة في انتخاب رئيس للكونغرس من تاسع وعاشر جلسة انتخابية..
كما يستطيع السيد حسن نصر الله أن يلفت نظر خصومه من سمير جعجع إلى كل معارضي إجراء تسوية على إسم فخامة الرئيس قبل انتخابه، إلى حقيقة أنه لولا التسوية التي أبرمها ترامب داخل الحزب الجمهوري بين جماعته الجمهوريين من خصوم مكارثي، وبين الجمهوريين غير المحسوبين عليه من مؤيدي مكارثي؛ لكان الكونغرس كحال برلمان لبنان، سيستمر بعقد جلسات عدم انتخاب رئيس له، حتى يتوصلون إلى إيجاد تسوية تسمي رئيس قبل موعد انتخابه في الكونغرس!!،..
.. كما أن مراقبون مستقلون يستطيعون القول أن البلد لم يعد فقط بحاجة لمرشح جدي، بل بات أيضاً وقبلاً، بحاجة لجلسة انتخاب جدية؛ وهو أمر يحتاج حصوله لتسوية على إسم الرئيس الجدي، تسبق عقد جلسة انتخاب جدية لفخامة الرئيس..
وأبعد من موضوع فخامة رئيس لبنان، فإن ما يمكن أن يفيدنا به هذا المشهد المتنقل عن عدم الإستقرار السياسي، من لبنان إلى إسرائيل وصولاً إلى أميركا ودول كثيرة في العالم، هو أولاً أن نتائج الإنتخابات لم تعد تشكل آلية كافية لإنتاج سلطة مكان سلطة بشكل سلمي، والسبب في ذلك حصول تحولات عميقة وسريعة وذات نزعة صدامية واحترابية، سواء داخل المجتمعات الكبيرة الرأسمالية مثل أميركا، أو الصغيرة المتهالكة مثل لبنان، أو الصناعية المتقدمة مثل إسرائيل ..
..فالعالم كمجتمعات يقفز خارج توازن جاذبية فضاء الدولة الموجهة أو المتشاركة (الليبرالية)، وذلك في رحلته السريعة والمبهرة بين طفرات تقدم ثورة الاتصالات، ما يجعل الإعلام الرسمي والخاص والموازي غير قادر على إحتواء موجات الرفض الإجتماعية والفكرية وحتى السلوكية، وأيضاً غير قادر على مخاطبتها وفتح حوار معها.. وما يجعل مؤسسات الدولة الأكثر عراقة وقوة، تتراجع لتصبح أشبه “بضواحي خدماتية” داخل المدن المعولمة بفوضى هي عبارة عن تطور أجيال التقدم من ناحية وأجيال المشاكل الجديدة من ناحية أخرى؛ بدليل الإنهيارات التي واجهت القطاعات الطبية أثناء جائحة كورونا، وبنفس الوقت السرعة القياسية في إنتاج اللقاح..
.. وهذا التطور خارج مدار الجاذبية في فضاءات الدول، يجعل القطاع الخاص الأكثر إنتاجية (كقطاع الاتصالات) بحالة انقسامات تنافسية ليست فقط عامودية بل أيضاً أفقية كما يحدث في السياسة، بدليل ما يحصل من تشظي صناعي تنافسي راهناً داخل عوالم صناعة الاتصالات الأساسية.
.. قصارى القول أن العالم يتغير باتجاه أن مجتمعاته تتفلت من فضائيات الدولة.. وللغرابة أن هذا يحدث ليس فقط في الدول الشمولية أو الفاشلة، بل حتى في الدول الأكثر غنى أو الأكثر ديموقراطية.. فترامب الهارب من الضرائب ومرسل البلطجية لاقتحام الكونغرس، ليس حالة “دولنة” – اشتقاق من رجل دولة – ونتنياهو المدان بالفساد والمتحالف مع جماعة كهانا المتهمين بالإرهاب حتى من القضاء الاسرائيلي، ليس أيضاً حالة “دولنة”، وكذا الحال بالنسبة للبنان – رغم فارق المقارنة – الذي كل مسؤوليه هم في حالة معاكسة لصفة “الدولنة”…