خاص الهديل:
..حتى سنوات قادمة سيظل الحدث الأوكراني هو نقطة الإهتمام العالمي عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وعلى مستوى التفاعلات ذات الصلة بحيز هذا الصراع في مداه الجيوبولتيكي.
وتعتبر تركيا إحدى الدول الأكثر أهمية التي تنطلق منها التفاعلات ذات التأثير الإستراتيجي على مسار الحدث الأوكراني؛ فأردوغان جعلته الحرب في أوكرانيا يقف في نقطة لها ميزات أنها تقع سياسياً في نصف العالم؛ وذلك بعد أن كانت الأزمة الإقتصادية، واهتزاز الإستقرار الداخلي بعد الإنقلاب الفاشل على أردوغان؛ حولا تركيا إلى أشبه “بدولة ضاحية” على طرف القارة الأوروبية من جهة، ودولة غير مرحب بها من جهة ثانية في “نادي المتوسط للغاز”، ومن قبل معظم دول منطقة الشرق الأوسط..
..وهناك متابعون استراتيجيون ينصحون اليوم بأن يتم تركيز الأنظار خلال الفترة الراهنة والسنوات القادمة على الأحداث في تركيا، أو تلك التي تحدث في الخارج ويكون مصدرها تركيا، أو التي تجري خارج تركيا ولها علاقة بالوضع التركي.. باختصار: كل شيء تركي أو على صلة بتركيا، سيكون له معنى أوكراني، ومن ثم عالمي، وسيكون لكل من أميركا وروسيا تداخلاً معه؛ إما سلبي أو إيجابي..
لماذا؟
أولاً- لأن الساحة التركية هي الأكثر تأثيراً على الحرب في أوكرانيا: فأردوغان من بين كل زعماء منطقة الشرق الأوسط وأوروبا والقوقاز (الخ..)، هو الأكثر خبرة ومعرفة ببوتين صديقه الوثيق، فلقد تشاركا في صناعة “نهاية لحرب كاراباخ”، وتخطيط عمل عسكري ميداني روسي- تركي مشترك هناك..
..كما تشاركا في الأزمة السورية، سواء من زاوية تراجعهما عن حافة الحرب بينهما، بعد أزمة إسقاط تركيا للطائرة الروسية في سورية؛ أو من زاوية أنهما مستمران معاً منذ سنوات في تطوير قواعد الاشتباك في شمال سورية لضبط اللعبة بين “إرهاب معولم” ونظام غير محدد..
..أضف أنه ضمن اوستانا تشارك بوتين وأردوغان في صناعة منصات للسلام السوري، يمكن تفعيلها عندما يقرر الغرب ومعه العرب بدء تمويل السلام السوري.
..كما أن أردوغان هو الزعيم الوحيد في الناتو الذي تربطه ببوتين ليس فقط علاقة، بل صداقة وتفاعل للكيميا معه. كما أن تركيا هي الوحيدة القادرة على لعب دور ممر عالمي غذائي للقمح الأوكراني إلى العالم، وبالمقابل أن يتم إستعمال هذا الممر العالمي كقناة لمد بوتين بالأوكسجين السياسي.
كل هذه الميزات تعطي لتركيا بشكل خاص، ولأردوغان بشكل استثنائي، “دوراً عالمياً” في الحرب الأوكرانية، و”دوراً إيجابياً” في تهدئة نار هذه الحرب حينما تريد واشنطن ذلك، ودوراً سلبياً في ممارسة تبادل “لكمات الضغوط” بين كل المشاركين في هذه الحرب، حينما تحتدم معارك تحسين شروط التفاوض على قواعد اللعبة، طالما أن البحث عن قواعد التسوية لإنهاء هذه الحرب، لا يزال بعيد المنال..
ثانياً- إن واقع أن الإنتخابات التركية تجري في غمرة وجود أهمية عالية لدور تركيا في توازنات الحرب الأوكرانية، سيقود إلى إكساب نتائج هذه الإنتخابات معنى دولياً بأكثر من أي وقت مضى. فبايدن سينظر لإنتخابات تركيا من ثقب المفاضلة بين أين تكمن مصالح أميركا الأوكرانية داخل تركيا، مع أردوغان أم مع خصومه؟
وبالنظر لمرونة العلاقة معه في زمن الحرب في أوكرانيا، فإن روسيا ستراهن على بقاء أردوغان في الحكم، كما تراهن حالياً على عودة ترامب. وأردوغان من جهته سيراهن على أنه بات حاجة لأميركا لفتح قناة ضغط أو حوار مع بوتين، وبات حاجة لموسكو لفتح طرق لغازها المحاصر في أوروبا ولإبقاء طرق الحرب العالمية الثانية العسكرية التي تمر في تركيا، مفتوحة أمام البحرية الروسية في الحرب العالمية الثالثة الحالية غير المعلنة.
ثالثاً- أردوغان المرغوب دولياً وإقليمياً بسبب موقعه الهام في معادلات الحرب الأوكرانية، يتبادل التحية مع الرئيس السوري بشار الأسد؛ ويتقصد أن يعود إلى دمشق وهو يتأبط عن يمينه ذراع الملك السعودي المنفتح حديثاً على سورية. وعن يساره يتأبط ذراعي كل من بوتين وخامنئي المشتركين معه في انتزاع الورقة الكردية من يدي “المؤأمرة الأميركية”.. إن دور تركيا في سورية مؤثر كون له تتمة في التأثير على المعادلة الأوكرانية؛ ذلك أنه في حال أمعن بايدن بالضغط على تركيا بورقة “قسد الكردية”، فإن أردوغان سيمعن بتطوير علاقته مع بوتين لتصبح كردية أوكرانية.. والعكس صحيح.. وخليجياً، فإن أنقرة ستحبذ الحل العربي في سورية، إذ أنه أقل خطورة عليها من الحل الإسرائيلي – الأميركي وحتى الأوروبي الفرنسي الذي يريد حكماً ذاتياً و”شبه دويلة” للكرد السوريين.
..والواقع أنه من خلال ما سيحدث في سورية انطلاقاً من بوابة الحدث التركي المفتوحة على الحدث الأوكراني، يمكن أن يكون للبنان نصيباً من هذه المقايضات الأممية الكبرى التي تنضج تسوياتها على نار الحرب العالمية الثالثة في أوكرانيا.