خاص الهديل:
برز أمس مشهدان سياسيان لافتان، كونهما يُعبران من جهة عن توجهات جديدة لدى الدولتين الأهم في المنطقة: السعودية وإيران؛ ويُعبران من جهة ثانية عن أن هاتين الدولتين تحاول كل واحدة منهما على طريقتها ولأسبابها، استيعاب الهيبة الأميركية المتراجعة في الشرق الأوسط.
المشهد الأول حصل في دافوس، حيث من هناك قال وزير خارجية السعودية فيصل بن فرحان أمس ما معناه أن الرياض تبحث عن مسار جديد للسلام مع الجميع في المنطقة ومع ايران، ويقوم هذا المسار على البحث عن التنمية المشتركة، بدل البقاء في مربع الصراع الجيوسياسي القديم؛ وقال بن فرحان عن علاقة الرياض بواشنطن أن السعودية لديها علاقة شراكة قوية مع أميركا، ولكن هذا لا يعني أننا متفقون على كل شيء.
وتوصيفات بن فرحان هذه عن مقاربة السعودية للمنطقة وللعلاقة مع واشنطن، تظهر أولاً أن السعودية تقف في لحظة مراجعة للمعايير الإستراتيجية التي كانت تعتبر ثوابت في سياستها الخارجية، وبموجبها تستبدل مصطلحات قديمة كانت تعتمدها في توجيه مصالحها الخارجية، بمصطلحات جديدة تنم عن وجود تفكير جديد في الرياض حول رؤية كيفية تحقيق مصالح السعودية.
ويظهر كلام فرحان ثانياً أن الرياض لا تلجأ لهذه المراجعة لأنها فقط تريد ذلك، بل أيضاً لإدراكها وقناعتها بأن العالم تغير، ومعه يجب أن تتغير معادلات نظرة السعودية لمصالحها في العالم الجديد.
وهذه الملاحظات التي أثارتها مطالعة بن فرحان في منتدى دافوس الذي تقدم فيه بالعادة الدول توصيفاً عميقاً لأفكارها حول الأحداث في مناطقها والعالم، تقع أهميتها في أن بن فرحان اقترب لأول مرة بشكل علني من حسم الجدل الذي يدور بهمس في المنطقة بخصوص ما الذي تغير في السعودية، خاصة على مستوى علاقتها بأمريكا وأيضاً على مستوى نظرتها لكيفية إدارة سياساتها الخارجية في الإقليم؟؟
ولعل الفكرة الأهم التي أراد بن فرحان في دافوس إيصالها للمنطقة أمس، هي أن السعودية ما عاد تجذبها الصراعات التي تقوم على الحروب الإيديولوجية والجيوسياسية التي كانت ولا زالت تستنزف اقتصاديات دول المنطقة، لأن هذا النوع من الصراعات لا معنى حقيقي لها؛ بينما الصراع الحقيقي الذي ترى السعودية أنه يجب الالتفات إليه في الحقبة الجديدة، هو كيفية إثبات القدرة كدولة على النجاح في تجارب بناء سلام التنمية المشتركة بين دول المنطقة.
لا شك أن الكلام السعودي هذا، يشكل نظرة جديدة في تعريفها للسلوك السياسي الجديد الذي يجب إتباعه في المنطقة؛ وهو يدعو للخروج من حقب تفكير عربية وشرق أوسطية ماضية، وذلك لمصلحة الدخول في حقبة اتباع العرب ودول المنطقة سلوك جديد لديه تعريفاته الجديدة لقضايا السلم وحل التباينات ضمن مفهوم الحفاظ على الشراكة التي تقبل بداخلها التباين حول المصالح.
والواقع أن كلام فرحان أمس عن الشراكة التي لا تعني عدم الاختلاف مع واشنطن، لم يكن مجرد كلاماً نظرياً بل كان بمثابة تعريفات نظرية لمواقف مارستها السعودية عملياً مؤخراً مع واشنطن التي تباينت معها حول موضوع استراتيجي لإدارة بايدن يتعلق بسوق النفط، وأيضاً مارستها السعودية عملياً مع ايران التي فتحت معها حواراً وصف بن فرحان هدفه بالبحث عن علاقات بين دول المنطقة تقوم على تبادل التنمية بدل تبادل الصراعات على النفوذ الجيوسياسي الفارغ في المنطقة.
إن انقلاب المفاهيم التعريفية للسياسة الخارجية السعودية يقول أمراً أساسياً، وهو أن الرياض خرجت من النظرة لأميركا بأنها محور العالم الجيوسياسي الوحيد؛ لتصبح أميركا بنظرها دولة عظمى في عالم لا جيوسياسي، بل عالم متفاعل في نطاق البحث عن مصالح التنمية المشتركة المتنوعة، ما يعني أن الخلاف مع أميركا صار ممكناً، وأن العمل خارج مدارها السياسي لا يعني فك الشراكة معها، بل يعني التكيف مع عالم جديد ومع استقلالية السياسة الخارجية تعبر عن مصالح البلد.
وليس بعيداً عن دافوس ورسالة السعودية عن جديد نظرتها للمنطقة والعلاقة مع أميركا، فإن رئيس وزراء الحكومة العراقية محمد الشياع السوداني قال أمس من بغداد “ان العراق لا يزال بحاجة لوجود القوات الأميركية فيه للتصدي للإرهاب”.
..وأثار هذا التصريح جدلاً بسبب أن كلام السوداني حول موضوع تواجد القوات الأميركية في العراق، يخالف بشكل حاد رأي الإطار التنسيقي الشيعي وإيران، علماً أن هاتين الجهتين هما من جاءا به لرئاسة الحكومة، وهما من يقدمان له الحماية السياسية!!..
..وعليه كان لا يمكن فهم الخلفية الحقيقية لكلام السوداني الجديد الذي صدر أمس من بغداد، إلا بعد رصد الكلام الجديد أيضاً الذي صدر أمس عن وزير خارجية إيران عبد الله اللهيان من طهران، والذي قاله فيه “ان إيران لا تزال ترى فرصة لتحقيق الاتفاق النووي، وأن الكرة اليوم في ملعب واشنطن”..
والواقع أن تصريح الشياع المؤيد لبقاء الوجود العسكري الأميركي في العراق من جهة، وتصريح اللهيان المتفائل بإمكانية توقيع الاتفاق النووي الإيراني مع أميركا من جهة ثانية، إنما يقولان مواربة وبشكل غير مباشر، عدة أمور مهمة يمكن عرضها على الشكل التالي:
إن ايران تريد في هذه المرحلة تهدئة الأجواء مع واشنطن وذلك لعدة أسباب رئيسة، من بينها أن ايران تتحسب من أن واشنطن المتراجعة هيبتها في العالم، قد تقرر الآن أن لها مصلحة في الإصغاء لطلب تل أبيب بتوجيه ضربة عسكرية للنووي الإيراني، مما يجعل أميركا تستعيد هيبتها العالمية التي طرأ عليها نوع واضح وخطر من التآكل.
وبكلام آخر فإن طهران تقول لبايدن أنها قادرة على مد حبل النجاة لهيبة أميركا في المنطقة من دون اضطرار واشنطن للقيام بمغامرة ضرب إيران؛ وذلك من خلال دفع السوداني ليقول أن بغداد لا زالت بحاجة لقوة أميركا؛ وهذا كلام يصب في خدمة تقوية صورة الهيبة الأميركية في المنطقة، وأيضاً من خلال جعل اللهيان يقول أن إنجاز الاتفاق النووي مع أميركا لا يزال ممكناً، رغم ما يسود العالم من قناعة بأن واشنطن لم تعد قادرة على استعادة الاتفاق النووي مع إيران.. وأخيراً يبدو أن كلام إدارة بايدن أمس من واشنطن، عن أن إدارته ستستمر بدعم حلفائها في المنطقة، إنما جاء أيضاً ليكمل من نقطة مخفية كلام الشياع عن أن العراق لا يزال بحاجة لقوة أميركا، وكلام اللهيان عن أن إيران لا تزال تثق بقدرة اميركا على استعادة الاتفاق النووي.
كل هذه التصريحات الصادرة أمس من دافوس وطهران وبغداد وواشنطن تؤدي إلى فكرة أساسية وهي بروز حاجة أميركية وشرق أوسطية لتأكيد أن هيبة أميركا في المنطقة لا تزال قائمة، ما يعني عملياً أن هيبة أميركا لم تعد مطلقة بل بحاجة للتأكيد عليها؛ ولكن مع فارق مهم ولافت وهو أن بن فرحان من دافوس يقول ببقاء قوة أميركا، ولكن على أساس الشراكة القوية معها، وليس على أساس الهيبة المطلقة التي لا تسمح بالخلاف معها، بينما كلام الشياع المتصل بكلام اللهيان أراد أمس توجيه رسالة لأميركا تقول أن بقاء هيبتها في المنطقة ممكن على أساس تقاسم النفوذ الخفي في المنطقة مع طهران، ويعتبر العراق نموذجاً عن ما تقوله طهران، وذلك عندما تقدم مشهداً يصبح فيه رئيس وزراء العراق السوداني قادراً لأن ايران تدعمه، على المطالبة ببقاء القوات الاميركية في العراق.