الهديل

حسين الحسيني…مدينون لكَ بالإعتذار

حسين الحسيني…مدينون لكَ بالإعتذار

 

 

 

بقلم: *المحامي وليد أبو دية*

 

*وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ*.

كثيراً ما نسمع تلك العبارة التي تُظهر مكانة ومنزلة الشخص الغائب ونحن بأمسّ الحاجة إليه.

إنه عجز بيت شعري قاله الشاعر *أبو فراس الحمداني* وهو في الأسر بيد الروم فذهبَ مثالاً عند العرب.

بالأمس نكّس كل الوطن هامته على رحيل *عرّاب الطائف* رجل الدولة *الرئيس حسين الحسيني*، وتداعى حُزناً على فقد قيمةٍ دستورية نادرة شهدتها الحياة السياسية في لبنان.

الرأي الثاقب عنده لم يكن إلتماساً للموافقة، بل كان إلتماساً للحقيقة…فهو ما كان يقول الرأي الذي يظنه يوافق هواه، بل الرأي الذي يحسبه يوافق الحق والدستور.

قامت بينه وبين الحجة إلفة، فكان المدى فسِحاً بينه وبين البرهان.

كان يدأب على دراسة كل مسألة بدقّة قلّ نظيرها إعمالاً منه للقول المأثور:

*من أفتى بغير علمٍ وإن أصاب فقد أخطأ*، تماماً كما التحذير من تفسير القرآن بغير علمٍ، على ما قاله *إبن تيمية* رحمه الله:

*فمن قال في القرآن برأيه، فقد تكلّف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمر به، فلو أصاب المعنى في نفس الأمر، لكان قد أخطأ، لأنه لم يأتِ الأمر من بابهِ، كمن حكمَ بين الناس على جهلٍ فهو في النار، وإن وافق حكمهُ الصواب*.

قرأنا لكثيرين فزهونا بهم، ونقرأ لما كان يقوله دولته، فكُنّا نأنس لهوسه بالدستور وبالقوانين.

يستنفد كل أمرٍ ليستولد شيئاً من الحق.

ثابتٌ في مبادئهِ، في اعتدالهِ، في نهجهِ، في رجحان فكرهِ وفي رأيهِ، وهذا ما كان يميزه عن باقي رجال السياسة.

فعندما يتحول العمل السياسي لدى رجل السياسة إلى معادلةٍ أخلاقية، تسقط كل المغريات وتبقى الكرامة المرتبطة بنبلِ الذات ونبل القضية التي طالما التزم بها، خُلاصتها محبّة الناس وحماية القيم، ومصلحة الوطن.

أما إستقالته من المجلس النيابي في ٢٠٠٨/٨/١٢ فكانت نابعة من تراثٍ عريق في حياة عائلته وأجداده.

*دولة الرئيس* كان صاحب الرأي المميّز، والحجة الدامغة، والمنطق السوي مُذ كان رئيسا لبلدية شمسطار، مدينة رجال الفكر والسياسة منذ عهد المتصرفية، فهي التي أغنتهُ من التجارب اليومية في بيئته، في محافظة البقاع، حيث نشأ وترعرع في مدينة الشمس التاريخية بعلبك، الغنيّة بتراثها الوطني وبمواقف رجالها الوطنيين الصلبة التي لا تهتز كما أعمدة قلعتها وهياكلها الشامخة.

كان الرفيق الأول للإمام المُغيّب *السيد موسى الصدر*، القائد المُلهم وصاحب المواقف القومية وقائد الحركة الوطنية اللبنانية “أمل”.

تسلّم الراية بعد غياب سماحته، لكنه أبَى إلا أن تبقى خفاقة بيضاء ناصعة.

تبوّأ رئاسة مجلس النواب عام ١٩٨٤ وحتى عام ١٩٩٢ فكان مرجعاً دستورياً.

كافحَ وناضلَ لرأب الصدع جرّاء الحرب الأهلية العبثية التي عصفت بالساحة اللبنانية، وكانت المصلحة الوطنية شغله الشاغل.

هو سيّد وعرّاب الطائف. جمعَ كل اللبنانيين من حوله لأستيلاد الجمهورية اللبنانية الثانية من أجل بناء الدولة الحديثة وفق الدستور الجديد، ولهذا فقد إستحق دولتهُ وبحق وصفَ كبير الدبلوماسيين العرب، أمين عام الجامعة العربية الراحل معالي الدكتور عصمت عبد المجيد، *بأنه من أبرز رجال الدولة في لبنان والبرلمانيين العرب، بل من أبرز الرجال السياسيين الدوليين، حيث أكّد بإطلاعه وثقافته السياسية العالمية حول مفهوم القرار ٤٢٥ بأنه سياسي ضليع، ثاقب النظر والرؤية في مفاهيم الحركة السياسية العالمية، خاصةً بين دول منطقة الشرق الأوسط والغرب ومنظمة الأمم المتحدة*.

آمن دولته بأن لبنان هو لكل اللبنانيين دون إستثناء، فلا إستئثار لفئة على أُخرى. رفضَ الطائفية والفئوية، وأكد على ذلك من خلال إتفاق الطائف.

تبدّلت الخرائط، وتبدّل الحكام، وتداخلت المصالح الدولية والأقليمية والمحلية سياسياً، فغُيّبَ الطائف، وبدأ مسلسل الفراغ الدستوري والتشريعي حتى بات لبنان دون أهله، وأمسى إنتصار المقاومة محل إستفهامٍ من بعض أبناء الوطن الواحد…

حارب الراحل وناضل على أكثر من جبهة سعياً منه إلى لمّ شمل العائلة الواحدة بعيداً عن الأنانية والمصلحة الشخصية.

ففي *بيان عزوفه الشهير المُتّسم بالبلاغة القانونية والأدبية*، فاخر بمشاركته بتأسيس حركة المحرومين، وفي تصوّر الحرمان، وفي تصوّر إزالته، في رؤيةٍ مدنية لا طائفية.

فاخر بمشاركته بتأسيس المقاومة المسلحة والمقاومة المدنية، حيث لا وصاية لسلاحٍ على نفس، بل حيث تكون الأمرة للنفس الحرّة، نفس الفرد، والأمرة لنفس الشعب السيّد التي هي الدولة المقاوِمة لتحرير الأرض، ولكن أيضاً، لتحرير الإنسان.

فاخر بمشاركته في إنهاء الحرب وفي مواجهة الفتن مهما كان قدر أصحابها وخطر تهديداتهم. فكان عرّاب الطائف ومهندس السلام في لبنان، إيماناً منه بأن بلادنا وشعبنا وسلامنا الداخلي على نواقصه، إنما كان وما زال السلاح الماضي في مواجهة العدو وفي تحقيق الإنتصار.

فاخر بإتفاق الطائف الذي أُنجزَ في لبنان عبر محطات عديدة، وتحوّل إلى إتفاقٍ دولي إلتزم به الجميع.

فاخر بمشاركته في معارضة الإتفاقات التي فرضتها نتائج الحروب وفي معارضة الإتفاقات التي كانت من مقدمات الحروب، بعدما إكتشف أن إتفاقي القاهرة و١٧ أيار يطمسان مفعول قرار إتفاقية الهدنة مع إسرائيل والذي يفرض على الأمم المتحدة، وتحت باب الفصل السابع، تحقيق الأمن والإستقرار على جانبي الحدود تمهيداً للدخول الى تسوية شاملة في المنطقة. لذا، وكي لا تتذرّع إسرائيل إذ ذاك بخرق إتفاقية الهدنة من خلال إتفاق القاهرة، قام بإلغاء هذا الإتفاق كحال إتفاق ١٧ أيار الذي طمسَ القرارين ٤٢٥ و٤٢٦ لعام ١٩٧٨ كما القرارين ٥٠٨ و٥٠٩ لعام ١٩٨٢، والذي إعتُبر في جوهره، إتفاق الأحزمة الأمنية والسيطرة على لبنان، لذلك رفضهُ داعياً للوحدة ضده.

فاخر بمشاركته في وثيقة الوفاق الوطني التي نصت على أن *الإنماء المتوازن ركنٌ من أركان وحدة الدولة وإستقرار النظام*.

فاخر بمعارضته إقتسام الأرض أو الشعب أو المؤسسات، من الإتفاق الثلاثي إلى إتفاق الدوحة، مروراً بالثلاثيات والرباعيات والخماسيات.

فاخر بمشاركته في العمل على إقامة الدولة المدنية، حيث لا فرض لدينٍ بالإكراه ولا رفضَ لدينٍ بالإنكار. حيث لا وحشية في القول ولا وحشية في العمل، بل مدنية ترتقي بالبشر إلى أقسى إمكاناتهم الإنسانية، في القول كما في العمل، متكافلين متضامنين.

فاخر بكل ما قام به وبما كان مُصرا على القيام به، ذلك أن المسألة هي مسألة شعب يستحق الحياة، مسألة رسالة وطنية ورسالة إنسانية، لأن *الشعب هو مصدر السلطات*. من هنا كانت دعوته الجميع إلى الإنخراط في بناء الدولة المدنية بكل أبعادها. فالعودة إلى المؤسسة الدستورية الأولى، والتي هي الشعب، لا تكون بتزييف تمثيله، بل بإطلاق قدرته في ثورةٍ دستورية تُعيد إليه السلطة المصادرة بقوانين إنتخاب يخجل آباؤها من الإقرار بأبوّتها، تستراً، لا صدقاً أو شعوراً بالذنب.

سألته، ذات يومٍ، عن تعديلٍ دستوري حيال المادة ٥٦ بغية النص على مُهل مقيدة لرئيس الحكومة والوزراء لإصدار المراسيم، فأكد أنه وفي إتفاق الطائف جرى وضع مُهل ملزمة للجميع دون إستثناء. فوجود مُهل مقيدة لرئيس الجمهورية في الدستور، لا تعفي من هو دونه، رئيس الحكومة والوزراء، من قيودٍ مماثلة توجب المواد الدستورية إصدار قوانين تطبيقية لها تُحدد دقائق تنفيذها وآلياتها، كما كان من المقرر أن توضع آنذاك بإنتهاء ولاية المجلس المحددة نهاية عام ١٩٩٤، بحيث يُعدها المجلس الجديد القائم على المناصفة، فجاءت انتخابات عام ١٩٩٢ لتنسف كل ما كان يُعد لهُ.

وفي سياقٍ متّصل، كان يؤكد على ضرورة وضع خمسة قوانين تطبيقية مُلحّة لعددٍ وافر من المواد الدستورية التي سبّبت وتسبّبت بالكثير من الإشكالات والخلافات. وكان الراحل يستند إلى قاعدةٍ فقهية مفادُها أن *أشكل المشكلات تفسير البديهيات*. لذا فإن عدم صدور القوانين التطبيقية هذه وفقاً لإتفاق الطائف، هو من أفشل هذا الإتفاق.

وهذه القوانين هي:

١- *قانون إنتخاب* يخضع لمعيار الوحدة والعيش المشترك، لا قانون يخرق الدستور، مؤكداً على أن أصل المشكلة هو قانون الإنتخاب الذي إخترعه واضعوه، ثم إنقلب عليهم وفجّر الإشتباكات السياسية في أكثر من إتجاه ولدى كل الأفرقاء، حتى قبل الوصول إلى الإنتخابات النيابية.

فقانون الإنتخاب هو مصدر الخطاب السياسي المُتداول والذي حملَ الجميع على اللجوء إلى الخطاب المذهبي والطائفي لإسترضاء الطائفة بالصوت التفضيلي المذهبي، عوض الصوت التفضيلي الوطني.

٢- *وضع نظام داخلي لمجلس الوزراء*، بقانون لا بمرسوم يُكتب بقلم رصاص يُمحى ساعةً ويُفسّر بطريقةٍ مُختلفة ساعةً أُخرى، يُلزم الجميع *ويتضمّن*:

– تحديد مهلة مقيدة للرئيس المُكلّف تشكيل الحكومة.

– تقييد رئيس الحكومة والوزراء بمهل توقيع المراسيم كتلك المقيّدة لرئيس الجمهورية.

– ضرورة النص على صلاحيات نائب مجلس الوزراء، على غرار صلاحيات نائب رئيس مجلس النواب، تلك المنصوص عليها في النظام الداخلي لمجلس النواب.

– *السلطة القضائية المستقلة*، فلا قيام للسلطة القضائية، وهي لا تستحق هذه التسمية ما لم تكن مستقلة، إلا إذا أراد قيامها الشعب الذي تنطق بإسمه تلك السلطة في أحكامها. فمن دون القضاء لا ضمانات. ومبدأ فصل السلطات هو أساس العدالة بين المجتمعات.

فالإمام *علي بن أبي طالب* عليه السلام يقول:

*عجباً للسلطان كيف يُحسن وهو إذا أساء وجدَ من يمدحهُ ويذكّيه*، بمعنى أن القاعدة في السلطة هي الإساءة، والإستثناء هو الإحسان في عمل السلطة.

وجاء *مونسكيو* ليقول: *السلطة المُطلقة فسادٌ مُطلق*…ويُضيف: *لا يحدّ السلطة إلا السلطة، وأن كل من مارس السلطة هو مدعوٌ لإساءة إستعمالها، فالسلطة كالخمرة تعصف بالرؤوس*.

٤- *قانون الدفاع الوطني*، كون أحكام القانون النافذ الصادر عام ١٩٨٣ لا تأتلف مع إتفاق الطائف والدستور الحالي، ناهيك بتحوّل المجلس الأعلى للدفاع مؤسسة دستورية برئاسة رئيس الجمهورية بعدما كان أحدى دوائر وزارة الدفاع. فقانون الدفاع ليس الجانب العسكري فقط، وإنما المقصود الدفاع الوطني بكل مقوماته، من أمن وسياسة ومال وتعليم…

٥- *خطّة التنمية الشاملة* التي تشمل وفقاً لإتفاق الطائف البلديات واللامركزية الإدارية. وهذه الخطّة بمقدورها ترجمة المبدأ المنصوص عليه في الدستور، وهو أن *الإنماء المتوازن في المناطق ركنٌ أساسي من أركان وحدة الدولة وإستقرار النظام*.

 

*وبعد*،

ثمّة كلمة أطلقها دولة الرئيس الحسيني وردّدها في بيان عزوفه الشهير بتاريخ ٢٠٠٩/٤/٢٢ قال فيها:

*عليّ أن أرجو كل واحد منكم أن يدعوني إلى واجب تقديم الإعتذار، أو بذل التعويض، في مقابل كل أذية أو ضررٍ كان. أما الحسنة التي كانت فهي من رسالة ورثتها لا أبتغي في مقابلها جزاءّ ولا شكورا، والأمانة في إستمرارها جيلاً بعد جيل*، خاتماً كلمته بالآية الكريمة التي بلغت ذروة الإعجاز والبلاغة من حيث الوضوح وتوصيل المعنى المُراد:

*فأما الذبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكثُ في الأرض*.(الرعد:١٧)

 

لا، وحاشاكَ يا دولة الرئيس، ما أنتُم من عليه واجب تقديم الإعتذار، بل نحن…

وليسمح لي الشاعر العربي ها هُنا لأقول:

“لا، وحاشاكَ…أنتَ سيفٌ سيبقى

ولهُ، وهو في الخلودِ، مَضاءٌ

هيبة وهو مُغمدٌ، فإذا ما سُلَّ

يجري من شفرتيه الضياءُ

هكذا أنتَ غائباً…فإذا ما

قيلَ ميتاً، فلتخجلِ الأحياءُ

لا تُرَع “يا سيد”، ونمّ هادئ البال

قرير العيون…فالأنباءُ

سوف تأتيكَ ذات يومٍ بأن

الأرضَ دارت، وضجَّ فيها الضياءُ”.

 

*الرئيس حسين الحسيني*، كنزٌ فقدناه صحّ فيه قول أمير الشعراء الأخطل الصغير:

“أليوم أصبحت لا شمسي ولا قمري

من ذا يُغنّي على عودٍ بلا وترِ”.

 

لَكَم تمنّيتُ لو أن الأولوية للكلمة التي في البدء كانت، فلا بأس يا دولة الرئيس إن إعتليت المنبرَ لأقول لمن جَهِلوا، أو ربما تجاهلوا، أي قيمةٍ أنتَ وأي إنسان.

*ما زلتُ أؤمن بأن الإنسان لا يموتُ دفعةً واحدة، وإنما يموتُ بطريقة الأجزاء، كلّما رحلَ صديق مات جزء، وكلّما غادرنا حبيب مات جزء، وكلّما قُتلَ حُلمٌ من أحلامنا مات جزء، فيأتي الموتُ الأكبر ليجدَ كلّ الأجزاء ميتة فيحملها ويرحل*…

 

كل العزاء لمحبيك ولوطنك الذي هبّ كلّه لوداعك يا آخر الرايات،

وعزاؤنا الأكبر أن في الموت حياة.

Exit mobile version