“في ظل السوداوية التي يغرق فيها القطاع الصحّي في السنوات الماضية نتيجة الأزمة، وفي ظل التهريب والنقص في الأدوية والمستلزمات الطبية، كان الأمل ينمو في مكان صغير بعيداً عن الضوء. بدأ يكبر رويداً رويداً قبل أن يُعلن عنه اليوم بإنجاز طبي هو الأول من نوعه في #لبنان، بإجراء أول عملية #فصل توأم في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت.
في عام 1975 شهد لبنان ولادة أول توأم ملتصق إلا أنه لم تُجرَ له عملية الفصل ولم يعرف ماذا حل بهما. أما اليوم فكان الإعلان عن أول عملية فصل توأم في لبنان وهما بصحة جيدة وما زالا يمكثان في المستشفى لمتابعتهما.
رهف وريم طفلتان كُتب لهما الحياة ومستقبل أفضل بعد إنقاذهما من التصاقهما في المنطقة السفلى من الظهر. بداية القصة كانت منذ 6 أشهر عندما تلقى وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال فراس الأبيض اتصالاً يُفيد بوجود حالة توأم ملتصق بحاجة إلى مساعدة. وبالفعل، كانت الولادة في لبنان لا في الخارج وجراحة فصل التوأم في إحدى غرف العمليات في مستشفى الجامعة الأميركية، لتُعيد إلى الأذهان نجاح عملية فصل التوأم في السعودية قبل أسابيع.
بالعودة إلى مرايا والدة التوأم، نبدأ بسرد قصة هذه العائلة التي تعيش في طرابلس.
بعد شهرين على حملها، كان على مرايا عبد الله ملص أن تواجه الحقيقة المرّة التي سترافقها طيلة حملها الثاني، لم تكن تعابير الطبيبة سوسن في طرابلس مطمئنة، في أحشاء مرايا جنينان ينقصهما عضو لم يظهر بعد. لم تكن الزيارة الأولى مقلقة، أرادت الطبيبة أن تخفف من مخاوفها ريثما تتوضح الصورة أكثر، لكن بالنسبة لمرايا لم يكن خروجها من تلك العيادة كدخولها إليها، شيء ما انكسر في قلبها وأفكارها تتخبّط بصمت.
كان على مرايا أن تراجع الطبيبة كل 3 أسابيع لمتابعة حالتها النادرة، لم يعد الموضوع مجرد فرضية بل حقيقة صعبة تتكشف شهراً بعد شهر ومفادها التصاق التوأم بينهما داخل أحشائها. لم يكن الجنينان يتحرّكان في بطنها، كانا دائماً في الوضعية نفسها، وكان التعويل على عامل الوقت الذي سرعان ما اختفى وبات احتمال رؤيتهما منفصلين بعيد المنال.
في الشهر الخامس من الحمل، قررت طبيبة مرايا تحويلها إلى طبيب مختص في طب الجنين لإجراء تصوير الموجات الصوتية الدقيق والمفصل، وجاءت النتيجة المحتومة “التصاق التوأم ووجود مخرج واحد فقط”.
سلّمت مرايا أمرها للّه، برأيها، فهذَين التوأم هما ولداي وسأقبلهما كيفما كانا، وسأبحث عن كل العلاجات المتوافرة التي يمكن تقديمها لتحسين حالتهما. لم أكن أتوقع أن تكون كلفة الجراحة باهظة جداً وبمبالغ طائلة، ولم يكن بمقدورنا تأمين الكلفة المطلوبة. وجدتُ نفسي أمام حائط مسدود وقررتُ أن أطلب المساعدة من نائب المنطقة في طرابلس أحمد الخير الذي اتصل بدوره بوزير الصحة ليطلعه على تفاصيل الملف الطبّي وحيثياته”.
لم يكن خوف مرايا من الحالة الطبية النادرة، كان هاجسها الوحيد العائق المادي خصوصاً أن جراحة من هذا النوع تتطلب مبالغ طائلة.
الولادة والأمل المنتظر
في 16 أيلول أنجبت مرايا رهف وريم في ولادة قيصرية في مستشفى الجامعة الأميركية بعدما تبنّى هذه الحالة وقبل التحدّي بالتعاون مع وزارة الصحة. حملتهما بين يديها وكأنهما جنين واحد، وتمنت أن تنجح الجراحة، الأولى من نوعها في لبنان، لتفصل بينهما وتجعلها تعيش أمومتها بكامل تفاصيلها من دون عوائق أو خوف.
بعد مرور 4 أشهر على ولادتهما، قرر الفريق الطبي في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت إجراء أول عملية فصل للتوأم، تكللت بالنجاح.
تعترف مرايا “تمالكتُ أعصابي قبل الدخول لمشاهدة ابنتيّ، كنتُ أدرك جيداً أن ما ينتظرني ليس عادياً بل حالة خاصة ونادرة، كنتُ في الداخل أتمزق ولكن كنتُ في الوقت نفسه مصرّة على رؤيتهما. دخلتُ إليهما وشاهدتهما وتماسكت مشاعري حتى خروجي من هناك، وما إن دخلتُ غرفتي في المستشفى حتى انهرت باكية”.
كانت المرحلة الأولى صعبة وأصعب اللحظات كما تصف مرايا “عندما اضطررتُ إلى العودة إلى المنزل من دونهما، ولكن عندما أنظر اليوم إلى النتيجة بعد كل هذا التعب والقلق والخوف لا يسعني سوى القول “الحمد لله على كل شي، اليوم عندي توأم منفصل لكل طفل جسده الخاص وهما بصحّتهما، لا أريد أكثر من ذلك”.
ما مرّت به مرايا جعلها أكثر امتناناً للصحة وللأمل، تعرف تماماً أنها لم تكن لتجتاز هذه التجربة بمفردها ولذلك تتوجّه إلى كل شخص بالقول “لا تيأسوا من رحمة الله، ولقد تلطّف بنا ربّ العالمين ووضع في طريقنا أشخاصاً مدوا لنا يد العون لإتمام هذه الجراحة”.
10 ساعات متواصلة
وفي حديث خاص مع “النهار”، يوضح رئيس وحدة العناية الفائقة لحديثي الولادة الدكتور خالد يونس أن “من المهم معرفة أنه لا يمكن إجراء عملية الفصل لكل التوائم الملتصقين، خصوصاً إن كانت الأعضاء الرئيسية والحيوية هي الملتصقة مثل القلب. ولكن في حالة التوأم التي عملنا عليها كان الالتصاق في المنطقة السفلى من الظهر (أي منطقة الحوض). وتحمل هذه العمليات تحدّيات كبيرة وخطر مضاعفات الأمر الذي يتطلب متابعة دقيقة ومستمرة لمدى أشهر وهذا ما حصل بالفعل مع التوأم حيث عملنا لمدة 4 أشهر قبل إجراء عملية الفصل”.
ويؤكد يونس أن الجراحة تكللت بالنجاح من دون أي مضاعفات ويعود السبب إلى الاجتماعات المكثفة (7 اجتماعات طوال هذه المدة) حيث عمل الفريق الطبي على التعامل مع كل المخاطر والمضاعفات التي قد نواجهها خلال العملية. وكان من المتوقع أن تستغرق الجراحة حوالى 12 ساعة، إلا أنها انتهت خلال 10 ساعات متواصلة من العمل من قبل فريق طبي متكامل من كل الاختصاصات. وتقرر إجراء العملية للتوأم في الشهر الرابع بعد الولادة لأنه الوقت المناسب لمثل هذه العمليات (يفضّل إجراؤها بين عمر 4 أشهر إلى 6 أشهر).
ويسترجع يونس خلال حديثه في المؤتمر الفترة التي سبقت الجراحة والتي استزلمت كما يقول “4 أشهر قبل إجرائها لأنها عملية دقيقة وصعبة. وبالفعل، أجريت الولادة من دون أي مضاعفات ونُقل التوأم الملتصق إلى قسم العناية الفائقة لحديثي الولادة، وكان وضعهما مستقراً. وقد شكّلنا فريقاً من الأطباء والممرضين لمتابعة التوأم منذ الولادة حتى ما بعد مرحلة العملية، وهو مؤلف من جراح أعصاب، طبيب جلد وطبيب أشعة وأطباء العناية الفائقة وأطباء التخدير والممرضين… واليوم أصبح بإمكان التوأم التنفس بمفردهما من دون آلة الأوكسجين وسنبدأ بإطعامهما”.
ويشير يونس إلى أن “هذا التجانس المتكامل بين الفريق الطبي تكلل بنجاح هذه العملية، حيث نوقشت كل التفاصيل والاحتمالات، وهذا ما جعل هذا الإنجاز ممكناً وقائماً”.
تفاصيل الجراحة
وشرح رئيس دائرة الجراحة في مستشفى الجامعة الأميركية الدكتور جمال حب الله أن “الفريق الطبي كان مؤلفاً من 5 جراحين مع اختصاصيين من مختلف المجالات لمواكبة عملية فصل التوأم بشكل لا يؤثر على الأعضاء التي سيتم فصلها والتأثير على حياتهما في المستقبل. ولقد استخدمنا كل القدرات بداية مع تصميم شق الجرح وترميمه مع رئيس قسم الجراحة التجميلية الدكتور أمير إبراهيم حيث أجرى القسم الأول من العملية. وفي القسم الآخر، كان التحدي في فصل الحوض وهو منطقة التصاق التوأم، وتولى الدكتور حسين درويش والدكتور مروان نجار رئيس قسم جراحة الأعصاب مهمة فصل العمود الفقري في أسفله مع الحوض وفصل النخاع الشوكي وتثبيت الغشاء لتفادي أي مشاكل أو التهابات في السحايا.
بالإضافة إلى ذلك، كنا بحاجة إلى فصل الجهاز التناسلي والهضمي وخاصة المصران والمستقيم، وهذا القسم حساس جداً ويعتمد على قدرة الجراح على الحفاظ على كل العضلات المسؤولة عن وظيفة المخرج والتحكم به”.
ويؤكد حب الله أن “لبنان ما زال رائداً في المجال الطبي وما زلنا مستشفى الشرق، ونشكر ثقة وزير الصحة لإتمام وإنجاز هذا العمل الرائع”.قصّة أمل
وسط الانهيار المحتدم الذي يعصف بالبلد، نحتاج إلى بريق أمل، إلى ضوء صغير يضيء هذا النفق المظلم الطويل. كان لدى وزير الصحة اليوم بشرى لإعلانها للبنانيين، وكما أكد في مؤتمره الصحافي في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت “اليوم لدينا خبر وقصة جميلة نقولها للبنانيين وسط هذه الظروف الصعبة التي نمر فيها. بدأت القصة منذ 6 أشهر حيث تواصلت معي عائلة التوأم التي نحن في صدد الإعلان عن الإنجاز المتعلق به. وقد أظهر تصوير الموجات ما فوق الصوتية أن التوأم ملتصق داخل رحم الأم، وكان الاتصال للبحث في إمكانية سفر الأم للخارج لإجراء عملية الفصل وتحظى بالعناية الطبية اللازمة”.
ونعترف بأن هذه العمليات دقيقة جداً وصعبة وتتطلب فريقاً طبياً مؤلف من 15-20 اختصاصياً بين جراح، طبيب بنج، طبيب عناية بالخدّج، وطبيب ولادة… بالإضافة إلى الفريق التمريضي والإسعافي وأن يكون بين كل أعضاء هذا الفريق تنسيق فوري ودائم.
لبنان مستشفى الشرق
التحدّي وفق الأبيض كان في إمكانية إجراء هذه الجراحة في لبنان، ولا سيما في الأوضاع والظروف الصعبة التي يمر بها البلد، ونقص المستلزمات الطبية والأدوية والكادر الطبي والتمريضي. وبناءً على ذلك، اتصلت بالجامعة الأميركية في بيروت وأطلعتهم على الحالة الطبية وكان سؤال “هل بإمكان المستشفى إجراء هذه العملية وتقديم هذه الخدمة الطبية للوالدة والجنينين؟ وجاء الجواب بالإيجاب”.
هكذا بدأ التحدي، بالنسبة لوزارة الصحة لم يكن الموضوع فقط يتعلق بالمستشفى الجامعة الأميركية بل أيضاً بالنظام الصحي والاستشفائي في لبنان. وكما يعلم الجميع كان لبنان مستشفى الشرق وكنا نقود المنطقة بالخدمة الطبية، فكان السؤال الأهم: هل خسر لبنان هذه المكانة وهل ما زال بإمكان المؤسسات الاستشفائية تقديم هذا النوع من الخدمات؟
يُعرب الأبيض عن سعادته لما أنجزه لبنان ومستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، “والجواب جاء بنجاح أول عملية فصل لتوأم في لبنان، وهذا تأكيد على أن مستشفيات لبنان ما زالت قادرة على أن تكون في الصف الأول في تقديم العناية الصحية المتقدمة. وبالتالي نحن سعداء لأن رهف وريم ووالدتهما بصحة جيدة، بفضل الخدمة الممتازة التي حصلن عليها في مستشفى الجامعة الأميركية. وكوزير صحة أنا سعيد أن النظام الصحي في لبنان، بالرغم من أنه يواجه صعوبات عديدة، هو نظام مرن ولديه القدرة على تقديم الإنجازات وآخرها إنجاز اليوم”.
أمانة الثقة
من جهته، قال رئيس الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور فضلو خوري “إن ما تعلمته في الجامعة وخلال عملي أن هناك شيئين إذا خسرناهما لا يمكن تعويضهما، هما الأمل والصحة، ولم تتوانَ الجامعة يوماً عن تقديم الأمل لكل اللبنانيين من دون تمييز. اليوم، نحن فخورون بما حققه الفريق الطبي منذ لحظة الولادة وصولاً إلى عملية الفصل الدقيقة، وأشكر كل شخص أسهم في نجاح هذه العملية، وأتوجّه بشكر خاص إلى وزير الصحة الذي أعطانا هذه الثقة والأمل في تحمّل هذه المسؤولية.
نأمل أن نزيد الأمل للبنانيين في مستقبل أفضل، ونتمنى أن يضفي هذا الأمل ثقة بأن لبنان وشعبه له مستقبل أفضل بكثير مما كانوا يتصورون خلال السنوات الماضية الصعبة”.