الهديل

أين أنت في مراتب الوعي؟

بقلم: شيخة غانم الكبيسي

كثيراً ما يتداول المفكرون والكتاب وكذلك الفلاسفة والعلماء كلمة الوعي في مجمل حديثهم وفي صياغة تفسيراتهم ونظرياتهم، فللحظة نعتقد انه من أكثر الأشياء وضوحًا، لكن وبمجرد الغوص في دهاليزه يغدو من أكثر المصطلحات غموضًا، وهذا سر اثارته للجدل والحيرة

 

لكونه الوعاء الذي يجمع ببطنه مجموع عمليات الادراك التي تشمل كل العمليات الحسية والتحليلية والمشاعرية، مستخدما الحواس منفذاً لإدراك العالم وتصوره. ومن أجمل النظريات التي تفسر مراحل نموه “نظرية مراتب الوعي” التي يتمرحلُ فيها البشر سواء كانوا افراداً أو مجتمعات ويقطعونها مروراً طبيعياً منذ لحظة الولادة وحتى الوفاة.

 

وتبدأ هذه المراتب الفطرية بمرحلة الطفولة والتي فيها يدرك الطفل حاجاته الخاصة الفسيولوجية الطبيعية الغريزية فقط كالطعام والنوم بالإضافة للمشاعر الأساسية كالاحتواء والحب والأمان، وهناك الكثير منا يعلق بدرجة أو بأخرى بهذه المرحلة وان كبر بالعمر، حيث يتسع إدراكه لأمور جديدة ولكن اهتماماته ووعيه تتركز في الماديات والحاجات الأساسية البدائية.

 

ثم بعدها تأتي مرحلة الطفولة الثانية وهي مرحلة المرونة بدخوله للمدرسة والاختلاط بالآخرين ليدرك ان الكون لا يتمحور حوله هو فقط، فيتجاوز ذاته الغريزية وينتقل من دائرة احتياجاته الصغيرة البدائية الى دائرة احتياجات الاخرين، محاولا كسب رضاهم والتقرب إليهم وهي تبعية عاطفية غرائزية.

ثم يكبر ليبلغ مرحلة المراهقة وهي مرحلة الاعتماد على الذات في الحاجات الطبيعية والاعتداد بالقرارات الشخصية والتي قد تصل للتطرف الذي يقوده للعدوانية والنفور فينضم الى اشباهه من جماعات التمرد كتابع دون إدراك أو وعي للصواب والخطأ.

 

ثم تليها مرتبة النضوج الخطرة، التي تبدأ بدخول الجامعة. وهي مرحلة الانتماء لكيانات فكرية وتبعيات أقوى لفكرة أو مجال أو الانغماس في جماعة وفئة محددة، تقوم بتعزيز الثقة لترفعه الى درجات أعلى من الاعتداد والتباهي بما يؤمن به مما يوصله لحالة من التعصب لتبعيته الفكرية فيرى نفسه هو الاصوب والأحق، وهذه هي الطبيعة البشرية في الاغلب لا ترى الا خبراتها ومميزاتها وماهي عليه.

 

أما مرحلة الأهداف فتأتي بعد التخرج وهي المرتبة الخامسة والقائمة على المصلحة الذاتية وأساسها المنفعة الشخصية لتحقيق الغايات والوصول للأهداف وان تطلب ذلك المجاملة أو الانصياع للآخرين، دون إدراك حقيقة ان هذا النوع من التيسير والقبول من اجل الوصول قد يقوده للدمار إن علق فيه.

 

إما إذا بلغ مقصده وحقق امنياته وتشبع من الحياة المادية، فإنه يصل للاكتفاء الذي ينقله للمراتب العليا من حالات الوعي الذاتي والتعاطف الإنساني، فيبدأ بمساعدة الاخرين وتبني قضاياهم غير باحث عن الشهرة والمديح بل يقدم العون عن قناعة تامة وايمان راسخ بأهمية مساعدة الاخرين، فيتفرغ بهذه المرتبة السادسة للعمل الانساني.

 

هذا وإن علق الانسان في إحدى هذه المراتب السابقة، قد يصل لحالة من التعصب الحاد لاحتياجاته وانتماءاته الفكرية لكونه بانتقاله بين تلك المراتب عزز قناعاته لكل ما يؤمن به وينتمي إليه، فعدم معرفته ورؤيته للمراتب التالية تجعله يتمسك بأفكاره التي تمثل ارتكاز النسبة الأكبر لديه.

 

ولكونها مراتب نسبية وغير مطلقة فدائماً هناك تداخل بينها، فما انت عليه اليوم قد لا تكون عليه غداً، وما ترتفع درجة قناعاتك فيه بمرحلة ما قد تنخفض بمرحلة أخرى فالعملية متغيرة ومرنة. ولكن تبقى غالباً هناك منطقة تسيطر على إدراك ووعي الانسان فيعلق بها بدرجة أكبر أكثر من الأخرى.

ولكن حين يفكر الانسان بمنظور شمولي يبدأ الوعي الفكري والذهني والعقلي بقيادة زمام الامور ليتسع ادراكه العقلي ونضجه الفكري وهي المرحلة السابعة بالعموم والأولى من مراتب الحكمة، حين يرى العالم كوحدة واحدة فيستقرئ القوانين ليربط الاحداث الصغيرة بقوانين كبرى واضعاً لها قواعدها العامة وهي من أصعب المراتب التي يبلغها الانسان بالتفكر والتدبر باحثا عن الاتقان لذاته، مؤمن بنظرية الفراشة التي تقول “إن رفة جناح فراشة في البرازيل يُمكنها ان تُثير الأعاصير فوقَ سماء الصين”، فأدق التفاصيل تُخرجه من العشوائية والفوضى الحياتية، جامعاً أصغر الحيثيات الصغيرة لبناء النتائج والاهداف الكبيرة.

 

أما المرتبة الثامنة والأخيرة فهي مرحلة نادرة يصل اليها أهل التقوى والاستقامة بالارتباط بين الذات وخالقها ارتباطاً شبه دائم كالأنبياء ومن يلحق بهم، متجاوزين بالمرحلة الروحانية المنظور الشمولي ليبلغوا مرتبة الحكمة، وهي قمة ارتقاء الوعي الإنساني فكلما عظم الأثر ارتفعت قيمة الحياة.

 

فأين انت من مراتب الوعي؟ وبأيهم ما زلت عالقاً؟

Exit mobile version