خاص الهديل:
حينما كانت طائرت هتلر تقصف لندن وتزرع الدمار فيها، قرر تشرشل أن يجول في أحياء العاصمة البريطانية، وأن يوجه من فوق الحطام والركام رسالة إلى الشعب البريطاني، جاء فيها: “طالما القضاء بخير، فإن بريطانيا بخير”.
رسالة تشرشل هذه تقول أمرين اثنين أساسيين: الأول تؤكد على أن القضاء هو أساس الملك؛ والثاني تؤكد على أن القضاء يستطيع ليس فقط إعادة إعمار المدن المدمرة والاقتصاد المنهار، بل إعادة إعمار روح الأمة والوطن.
ما يحدث اليوم في لبنان من حرب داخل القضاء، يؤشر بعمق إلى “أن القضاء ليس بخير”، واستتباعاً: “لبنان ليس بخير”.
وكل هذا يحدث ضمن تعاظم ظاهرة تسارع مسار تحلل مؤسسات الدولة الواحدة بعد الأخرى؛ فرئاسة الجمهورية التي هي رمز البلاد دخلت مرحلة الشغور المزمن؛ ومجلس النواب المتصف بأنه “أم المؤسسات” دخل سن اليأس التشريعي والإنتخابي؛ فهو إذا انتخب لا يولي رئيساً، وإذا شرع، فإن تشريعاته لا تصل إلى حيز التطبيق، وإذا درس تشريعات ملحة مثل قانون الكابيتال كونترول، فهو يتباطأ ولا ينصف أموال المودعين..
أما الحكومة، فهي تعيش حالة “حرب باسيلية” عليها تهدف إلى إحالتها على التقاعد وهي في مرحلة يوجد للبلد حاجة ماسة إلى نشاطها. كما أن مؤسسات الدولة الخاصة بالكهرباء والصحة والطب والتربية، في حالة الشلل الكامل، وهي تقف على قارعة الطريق الدولية مستعطية المساعدة دون جدوى.
.. وحتى الأمس القريب، كان قطاع القضاء في حالة اعتكاف استمر لأشهر، وخلاله تم وضع سيف العدل في غمده؛ واليوم، وبعد طول انتظار، عاد القضاء للعمل، ولكن “أول ظهوره كان شمعة على طوله”؛ حيث افتتح القضاء مشهد عودته للعمل بحرب داخلية بين أجنحته التي كان ينتظر منها أن تتكامل لتصبح العدالة كاملة، وليس أن تتطاحن لتصبح العدالة مثخنة بالجراح.
ليست هذه السطور هي منصة للقول من يملك الصواب في هذا الخلاف أو الصراع القضائي؛ ذلك أن المنطق والفضيلة تقول أنه لا يجب على الإعلام أن يفاضل بين كفتي ميزان العدالة.. فلا يمكن ولا يجوز امتداح كفة وانتقاد الكفة الثانية، فالله والقانون يرمزان للعدالة على أنها كفتا ميزان متقابلتان ومتوازنتان، وإذا اختل أحدهما اختل الكف الآخر. فالتوازن بين جناحي أو كفي العدالة هو الوضع الطبيعي والمنشود والصحي لكل العملية القضائية، وصراعهما هو الوضع الكارثي للقضاء وللبلد ولوجود لبنان.
إن المطلوب إصلاح مبنى توازن القضاء بسرعة فائقة، والمطلوب من الإعلام عدم الإسهام في تغذية هذا الصراع؛ فالإعلام لا يمكنه أن يكون حكماً في هذا الصراع، بل مدافعاً عن القضاء ومطالباً بوحدته ضمن استقلاليات صلاحيات مؤسساته، لأنه إذا كان القضاء معتلاً، وغير موحد بمعنى توازن كفتي ميزان العدالة، فلن يكون هناك نصراً لطرف على آخر ولن يكون هناك إلا الخسارة للبنان الذي لن يكون بخير طالما أن القضاء ليس بخير، ولن يكون له مستقبل يعول عليه للخروج من أزمته، حتى لو قرر العالم مده بمليارات الدولارات وبعشرات المبادرات و”بلبن العصفور”.
وخلال أحداث أمس فوق الساحة القضائية برز أكثر من معطى يستدعي التعليق عليه، ولكن يظل أبرزها التعليق الذي صدر عن وزارة الخارجية الأميركية حول ما يحدث للقضاء في لبنان في ظل التباين داخله بخصوص مقاربة ملف انفجار المرفأ.
لقد قالت الخارجية الأميركية أن ضحايا المرفأ يستحقون كشف الحقيقة بشأنهم.
واضح أن السبب الذي دفع الخارجية الأميركية للتعليق على التطور القضائي في لبنان، مرده عدة أسباب:
أولاً- وجود اتهام سري وعلني يقول أن سبب الخلاف بين مدعي عام التمييز والمحقق العدلي هو الضغط الأميركي على لبنان لإطلاق أحد حاملي الجنسية الأميركية (محمد العوف) الموقوف بإشارة من القاضي البيطار بقضية انفجار المرفأ منذ أكثر من عامين من دون محاكمة.
.. وتريد واشنطن من خلال تعليق خارحيتها أمس، القول أنها ليست ضد العدالة بقضية انفجار المرفأ، لكنها ضد تحويل الموقوفين من دون محاكمة، إلى رهائن.
ثانياً- إن إطلاق كل الموقوفين أمس – بدعم دولي أو لسبب دولي (أميركي) – قد يشكل بداية انقلاب، ربما كان أبيض، هدفه إعادة وضع التحقيق في قضية مرفأ بيروت على سكة جديدة؛ وقد تكون هذه المرة سكة دولية، خاصة بعد أن اصطدم القضاء خلال اليومين الماضيين بألغام منصوبة داخل منزله، وليس بألغام ينصبها – بالعادة – تدخل السياسيين بشؤونه.
.. وعليه فإن الاحتمال الذي قد تقود إليه الأحداث الجارية حالياً داخل القضاء، هو نقل ملف التحقيق بالمرفأ من القضاء اللبناني إلى القضاء الدولي!!..