خاص الهديل:
سوف يعتبر يوم الخميس ٢٦ كانون الثاني ٢٠٢٣ من الأيام السوداء في تاريخ لبنان الحديث؛ وسوف يتم الإشارة إلى هذا التاريخ بوصفه محطة زمنية شهد خلالها لبنان لحظة انهيار الدولة فيه.
ومنذ اتفاق الطائف حتى اليوم شهد لبنان بعض المحطات التاريخية الهامة أو الخطرة أو الإستثنائية التي أدت نتائجها إلى تغيير مراحل المسارات البنيوية الداخلية فيه:
..على رأس هذه المحطات الزمنية يأتي يوم 14 شباط ٢٠٠٥ الذي حدثت فيه جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري والتي أدت تداعياتها إلى إحداث تغيير جيوسياسي، وليس فقط سياسي في لبنان؛ وتمثل هذا التغيير بإنتهاء العهد السوري في لبنان، وانتقال البلد من مرحلة سياسية إلى مرحلة أخرى جديدة مغايرة بالكامل.
ويوم ٧ أيار عام 2008 شهد لبنان ما عرف بحدث هجوم حزب الله على بيروت، الأمر الذي زعزع ليس فقط أمن البلد، بل مجمل التوازن الذي يقوم عليه النظام السياسي اللبناني، وهو الأمر المستمر في تداعيات ٧ أيار حتى الآن.. وقاد يوم ٧ أيار إلى انتقال لبنان لعهد ما عُرف باتفاق الدوحة وما صاحب هذا الاتفاق من نتائج رسمت علامات استفهام كبيرة حول سوية تنفيذ اتفاق الطائف..
يوم 4 آب ٢٠٢٠ تعرض مرفأ بيروت ومعه كل لبنان لأكبر انفجار في القرن، ما أدى عملياً الى جعل لبنان يتعرض لخطر فقدانه لدوره فوق خارطة واقع ومستقبل التجارة العالمية في المنطقة.
ثمة أيام أخرى شهدها لبنان أيضاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة، فعلت فعلها في جعل اتجاه نهر الأحداث اللبنانية يغير اتجاهه من مسار إلى آخر.. ومن هذه الأيام يوم خروج الاحتلال الإسرائيلي من الشريط الحدود عام ٢٠٠٠ ويوم بدء حرب العام ٢٠٠٦ الإسرائيلية على لبنان، الخ..
وما يميز يوم 26 كانون الثاني ٢٠٢٣ هو أنه يؤشر إلى تعاظم مسار انهيار الدولة، ويوثق لإحدى اللحظات الأكثر دلالة على مسار تحلل مؤسساتها؛ ويدلل أيضاً على أن قطاع القضاء في لبنان وضع قدمه في هذا اليوم المشؤوم على أول طريق الانهيار الذي كان القطاع المصرفي سبقه في وضع قدمه عليه قبل نحو عامين تقريباً، ما قاده إلى الإفلاس المعنوي والانهيار الوظيفي..
والمقصود بالمقارنة هنا، هو أن مؤسسة أو سلطة القضاء في لبنان، واجهت أمس نفس المشهد الذي سبق للقطاع المصرفي أن شهده، والذي تمثل بما يشبه “إعلان الإفلاس المعنوي” والشلل الوظبفي، ومضمونه الفعلي بالنتيجة هو اغتيال الثقة به من قبل المواطنين.
إن القضاء اللبناني بعد يوم ٢٦ كانون الثاني ٢٠٢٣ سوف يحتاج لسنوات طويلة حتى يرمم ثقة الشعب اللبناني به؛ تماماً كما أن القطاع المصرفي اللبناني سوف يحتاج لسنوات عديدة حتى يستعيد ثقة المودع اللبناني به.
إن حقيقة ما حدث هو أن قوس العدل انكسر، وسقط فوق رؤوس ثقة الناس بالقضاء في لبنان، وليس فقط فوق رأس الثقة بهذا القاضي أو ذاك.. وهذا هو الأهم والأخطر، والذي يعتبر نوعاً من الخسائر التي لا يمكن تعويضها بسهولة.
والحق يقال أن خطوة الإعتكاف التي اتخذها القضاء، رغم أنها مبررة لناحية بُعدها المطلبي، إلا أنها في جانب منها كانت تشبه خطوة قيام المصارف بإقفال أبوابها لفترة زمنية مع بدايات انتفاضة ١٧ تشرين الأول 2019. إن المشكلة في إجراء إقفال أبواب البنوك عند قطاع المصارف، والإعتكاف داخل قطاع القضاء، تكمن في أن هذا النوع من الإجراءات لا يمكن اللجوء إليها من قبل سلطات أو قطاعات يقوم كل رأسمالها على ثقة الناس بها: فالقضاء لا يمكنه أن يعتكف أمام حاجة المواطن لقوس العدل، كما أن المصرف لا يمكنه أن يقفل بابه أمام حاجة المودع لاسترداد ماله.. وعندما تفعل هذه المؤسسات ذلك، فإن جانباً هاماً من تاريخ ورصيد الثقة بها ينهار!!.
المهم الآن، وفي هذه اللحظة، هو مدى القدرة على استدراك ما حصل من خراب داخل مؤسسة القضاء.. ولكن السؤال الأكبر هنا، هو من هي الجهة في البلد التي لا تزال قادرة، والتي عليها أن تبادر لاستدراك تغاظم خطر انهيار الثقة بالقضاء اللبناني، ووقفه عند حد يمكن معه إعادة ترميم ما حصل من انهيار على هذا الصعيد..
بات المطلوب حالياً حصول صدمة داخل سلطة القضاء لإعادة النبض المتوقف للقلب القضائي، ولم يعد المطلوب حالياً صدمة من القضاء في لبنان، للسلطة السياسية المنهارة..
..ولكن مرة أخرى من ينقذ القضاء من الانهيار؛ لأن الاستسلام لمعادلة موت القضاء سريرياً، سوف يقود تلقائياً الى طرح السؤال عن المؤسسة التالية التي سوف تدخل بعد القضاء نفق الانهيار؟؟.. علماً أنه لم يتبق من مؤسسات الدولة العاملة إلا المؤسسة العسكرية؛ وفي حال انهيارها – لا سمح الله – سوف يدخل البلد لحظة الموت الفعلي وحالة الشلل غير القابل للشفاء لا الكلي ولا الجزئي.