لم يمر كأس العالم قطر 2022 من دون أن يذكرنا بوجود اختلافات كثيرة بين اعتزازنا بقيمنا وبانتمائنا العربي الإسلامي وبين انتصار آخرين -على قلتهم- لأفكار لا تقبلها ثقافات شتى في العالم.
بدت مواقف بعض الجهات من قضايا زائفة تجعلنا نفكر منذ المونديال وإلى الآن في ضرورة أن نقدم للعالم هويتنا وثقافتنا من منظورنا وليس من منظور أولئك الذين ظلت فيهم آفات الفكر الاستعماري معمرة في عقولهم إلى أيامنا.
لذلك كنتُ حريصا في فترة المونديال وبعده على الدعوة إلى توثيق كل شيء، لأننا حين نوثق فإنما نفعل ذلك بمنظورنا للحياة وبثقافتنا الأصيلة وبرؤيتنا لعلاقتنا مع الثقافات الأخرى، بينما لو وثق الآخرون حاضرنا فإنهم لا شك سيسبغون عليه كثيرًا من نظرتهم وأفكارهم.
ما أحوجنا إلى أن ندرك أن التوثيق ليس مجرد حصر كتابي أو بصري لما حدث، وإنما جمع كل الوثائق وتقديمها من زاويتنا، إذ علينا أن نعتبر من تاريخنا العربي حين كانت الوقائع تقدم من زاوية الآخرين فيُظلم أجدادنا فضلا عن ثقافتنا وحضارتنا وتشوّه صورتنا.
لننظر في ذلك التناول الذكي للروائي أمين معلوف في كتابه “الحروب الصليبية كما رآها العرب” حين عاد إلى وثائق الإخباريين العرب ليواجه بها ما راج من “الحقائق” عن تفاصيل 200 سنة من الصراع بين الفرنجة والعرب المسلمين، والمدهش في السردية التاريخية التي أنشأها معلوف إشارته الأولى والمربكة إلى أن الإخباريين العرب لم يستخدموا مصطلح “الحروب الصليبية” بل استخدموا عبارات مثل” حروب الفرنجة” أو “غزوات”، لكن الغرب اصطنع هذا المصطلح ليحوّل مجرى العلاقة بين العرب وبينه إلى صدام “ديني”!
لذلك يبيّن معلوف غايته من الكتاب قائلا: “الحق أن ما أردنا أن نقدمه ليس كتاب تاريخ آخر بقدر ما هو، انطلاقا من وجهة نظر أهملت حتى الآن، “رواية حقيقية” عن الحروب الصليبية وعن هذين القرنين المضطربين اللذين صنعا الغرب والعالم العربي ولا يزالان يحددان حتى اليوم علاقاتهما”.
ولئن عاد معلوف إلى استخراج وثائق القدامى لتصحيح التاريخ، فإننا اليوم لن ننتظر مرور سنوات وقرون لتتبنّى أجيالنا القادمة “تاريخنا الحاضر” برواية الآخرين، ألسنا أولى بتوثيق “روايتنا” لتاريخنا؟ ذلك هو الهدف الأساسي من رهان التوثيق، إنه مطلب أجيال عربية عاشت طوال عقود تواجه صورة حضارتنا من زاوية الغرب.
لا أعتقد أن توثيق حدث تاريخي مهم مثل المونديال هو شأن غربي، ولكنه شأن يخصنا قبل غيرنا. إننا نوثق الوقائع انطلاقا مما عشناه، وهذا المبدأ الأساسي في التوثيق هو منطلق علمي أيضا لما يسمى في الدراسات التاريخية بـ”تاريخ الزمن الراهن”، حيث عاد المؤرخون إلى تناول التجربة المعاصرة، بما فيها من مادة متحركة وذاكرة حية، تقوم على مراقبة “الشهود” لما حدث في فترة يكون فيها الماضي قريبا من الحاضر، وهو بتعبير موجز “تاريخ الماضي القريب” الذي كنا نحن جزءا من الشهود عليه، قبل انقضائه.
نقف أمام تاريخنا الراهن موقف الشهود، حتى لا نتلقف الوعي به عن طريق الآخرين، لقد تأذت حضارتنا العربية طويلا من حركة الاستشراق التي وثقت تراثنا و”حقّقته”، فالاستشراق له إستراتيجية معلومة، أسهب إدوارد سعيد في فضحها، حين رأى أن الغرب لا يرى نفسه غير “اليد العليا” التي لها فضل على العرب، وأن الحركة الاستشراقية مرتبطة بالنزعة الاستعمارية من ناحية وبالعنصرية من ناحية أخرى.
ورغم ذلك فإننا لا نستطيع أن نتجاهل الأثر الإيجابي للمستشرقين، فقد نفضوا الغبار عن مئات المخطوطات وقاموا بالضبط البيبلوغرافي للمخطوطات العربية وأصدروا فهارس لأبرز المخطوطات العربية الموجودة في خزائن المكتبات الأوروبية، ودرسوا مصادر التراث العربي فصنفوه وحصروه ووثقوه، لكن هذه الإسهامات التي وجدنا أثرها منذ أواخر القرن الثاني عشر الميلادي جديرة بأن تراجع من منظورنا العربي، كما لا يفوتنا أن تلك “الجهود الاستشراقية” أفادت كثيرا الأهداف الدينية والعسكرية والتوسّعية للدول الغربية، لذلك نجدد القول بخطورة التوثيق وأهدافه وفي المسالك التي تتحكم فيه أحيانًا.
وبالنظر إلى ذلك الإرث الهائل من تراث المخطوطات الذي حققه المستشرقون، علينا أن ننتبه إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي متعلقة بمناهج التحقيق، فقد تأثرت مناهجهم بما رافق نقدهم للنصوص الكلاسيكية اللاتينية القديمة، إذ ساد التشكيك فيها، فجاء التعامل مع التراث العربي من الزاوية نفسها، ولذلك كثرت المقاربات النقدية له من دون مراعاة لأصول التدوين لدى العرب، وقد أريق حبر كثير حول عمليات النقد والشك والتحريف لمصادر تراثية، و انتقل ذلك الهاجس إلى عدد من الباحثين والكتاب العرب بفعل أثر الحركة الاستشراقية، وبات من الضروري التخلص من النظرة الاستشراقية إلى تراثنا، بوضع منهج أصيل يستمدّ من معايير التدوين والتوثيق العربي.
لا شك في ان الاهتمام بالمخطوطات وحفظها جزء من الوعي التوثيقي، وفي هذا السياق سعت مكتبة قطر الوطنية إلى القيام بهذه المسؤولية التاريخية والمجتمعية، ذلك أنها منذ تأسيسها وهي تعمل على الحفاظ على التراث العربي الإسلامي باعتباره من أهم ركائز رسالتها، وقد أسهمت جهود المؤمنين بهذه الرسالة في تزويد المكتبة بمخطوطات ومصادر نادرة كانت نواة أساسية للمجموعة التراثية التي اشتملت على آلاف المخطوطات العربية الإسلامية وانخرط ذلك المسعى في تقليد عُرف به القطريون منذ عقود، حين كان حكام قطر والميسورون يهتمون بالمخطوطات ويقتنونها.
كان الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني مؤسس الدولة يعتني بالمخطوطات وينفق في طباعتها لتوفيرها لطلاب العلم في مختلف الدول العربية، وعلى نهجه سار ابنه الشيخ عبد الله بن جاسم آل ثاني عندما أوقف بعض المخطوطات وكذلك الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني الذي عرف بشغفه بالعلم والكتاب وأوقف كتبه في دار الكتب القطرية وفي مكتبة قطر بالأحساء. وخلق هذا التوجه الثقافي بيئة مناسبة للاهتمام بالمخطوطات لدى المثقفين القطريين، فتجد أغلب المكتبات الخاصة ثرية بالمخطوطات، وكانوا يسعون في اقتنائها والاستفادة منها، فتكون حديث مجالسهم ونواة لكثير من معارفهم.
وليس من الغريب على مكتبة قطر الوطنية أن تحمل هذه المسؤولية وأن تقوم بدورها في صيانة المخطوطات بطريقة حديثة، فالمكتبة التراثية تزخر بأنفس المخطوطات والوثائق والخرائط والصور النادرة. ومن أجل توفير رصيد أكبر من المخطوطات لفائدة القراء والباحثين على السواء، أرست مكتبة قطر الوطنية جسرا للتواصل مع المكتبات والأرشيفات والمؤسسات العالمية للحصول على نسخ رقمية من الوثائق والمخطوطات، وعرضها في البوابة الرقمية التي تعد ثمرة شراكات ممتدة ومتينة في الزمن مع المكتبة البريطانية ومؤسسة قطر.
تضمّن مشروع الرقمنة قرابة مليون وثيقة تاريخية من الأرشيف البريطاني المتعلق بتاريخ المنطقة، وكم يسّرت هذه الوثائق فهمنا لمنطقة الشرق الأوسط، وهي مادة ثرية للدراسة قد تنقل إلينا منظور الآخر، ولكن إذا كنا على وعي بثقافتنا وتاريخنا فإننا ندرسها من زاويتنا وبالمناهج التي تغذي رؤيتنا ولا تجعلنا غافلين عن إدراك الحقائق فيها. وإذا علمنا أن الأرشيف الضخم المعروف باسم سجلات مكتب الهند يمسح قرابة 9 أميال من مساحة أرفف المكتبة البريطانية، فإننا ندرك ما توليه الأمم من أهمية للوثائق.
إننا نحتاج إلى التوثيق حاجتنا إلى بناء أرشيف واسع أيضا، لأن الذاكرة التاريخية تتطلب وجود هذا الأرشيف، فمن خلاله يستطيع الفرد كما المؤسسات تحويل الذاكرة إلى قوة فاعلة في الحاضر، لقد كنت ألاحظ في كل أسفاري مدى انتشار ثقافة التوثيق في دول العالم وخاصة منها الدول الغربية حيث يدربون الأطفال منذ صغرهم على توثيق تواريخهم الشخصية من خلال ألبومات الصور وكتابة المذكرات عن رحلاتهم، وتسجيل أبسط الأشياء اليومية، قس على ذلك ما تفعله المؤسسات من أرشفة تاريخها.
التوثيق يسعفنا أفرادا ومجتمعات من فقدان الذاكرة، ويجعل ماضينا القريب بعد أن يصنف في “التراث” مادة تنتمي إلينا بشتى المعايير، ويصبح الأرشيف التاريخي بما يغتني به من وثائق شاهدا على كل الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وحتى السياسية والإدارية، فيسهم في حفظ الذاكرة وبناء الوعي التاريخي لكل فئات المجتمع بما يعزز ذاكرتها الوطنية، لذلك فإن التوثيق جزء من عمل وطني لا تقل قيمته عن بناء وسائل التقدم في المجتمع، فلا يمكن للشعوب أن تعيش من دون ذاكرة.
حرصت خلال مسيرتي العملية أن تكون مؤلفاتي نوعًا من التوثيق لمسيرة حياتي، إذ إن كل كتاب هو نوع من التوثيق لمرحلة من حياتي. فكثيرا ما عنيت بأدب الرحلات لما له من قيمة توثيقية، واعتبرت حياة الإنسان أشبه برحلة، وما عليه إلا أن يترك أثرا فيها فيسجل ما يراه صالحا للتوثيق لفائدته لنفسه وللناس، واعتبرت أن سعي العرب إلى توثيق رحلاتهم أسعفنا كثيرًا من انفراد الروايات الغربية عن بلداننا وعن الشعوب الأخرى.
فمنذ نهاية القرن التاسع الميلادي بدأت الرحلات العربية مع المسعودي في نقل الحقائق الجغرافية والتاريخية وأنماط عيش الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم من خلال التجارب والمشاهدات. ومن أجلّ ما وصلنا كتاب “مروج الذهب ومعادن الجوهر” الذي جمع بين التاريخ والجغرافيا والسياسة، وكان القرن الثاني عشر الميلادي من أكثر القرون تسجيلًا للرحلات، فعرفنا فيه رحلة ابن جبير الأندلسي ورحلة ابن بطوطة التي سماها “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” وقدم فيها صورة شاملة عن العالم الإسلامي في القرن الثامن الهجري.
استمرت الرحلات إلى عصرنا الراهن مرورا بعصر “النهضة العربية”، فمن يقدر أن يتجاهل رحلة رفاعة رافع الطهطاوي التي سجل تفاصيلها في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” فبيّنت ما بلغه الغرب من تقدم في نهايات القرن التاسع عشر، وأثر ما سجله على حركة الفكر والأدب في أجيال العرب. إننا لا نستطيع أن ننفي الدور الكبير الذي أسهم فيه أدب الرحلات في نقل منظورنا العربي الإسلامي إلى الآخر وفي إظهار طبيعة تفكيرنا وتلقينا للحضارة الإنسانية في أزمنة تاريخية مختلفة، ولذلك فإن تلك الرحلات إنما هي وثائق صاغها العرب من زاوية تفكيرهم وانطلاقا من ثقافتهم ورؤيتهم للعالم.
وقد كنت على وعي مبكر بكل هذه الأبعاد العميقة لأدب الترحال ولأهمية التوثيق حيثما حللت، فقد سمحت لي مسؤولياتي الدبلوماسية حين عملت سفيرا لبلدي في أكثر من دولة أن أطلع على ثقافات الشعوب وأن أوثق فيما كتبت للقضايا الكبرى التي شغلتني وشغلت الثقافة العربية، فكتابي “جدل المعارك والتسويات: الحرب الخليجية الأولى ومجلس الأمن” هو إلى حد ما توثيق للموضوع الذي شغلني مع زملائي سفراء دول الخليج العربي أثناء عملي مندوبا لبلادي في الأمم المتحدة بنيويورك حول تعامل مجلس الأمن مع الحرب الإيرانية العراقية.
وفي كتابي “على قدر أهل العزم” وثقتُ لعملي وزيرًا للإعلام وبعدئذ للثقافة والتراث والفنون، وليس أدلّ على ذلك ما عمدتُ إلى توثيقه عن فعالية “الدوحة عاصمة للثقافة العربية عام 2010″، ذلك الحدث الذي حوّل الدوحة إلى مركز إشعاع ثقافي عربي. كذلك وثقت للحواضر الثقافية في العالم العربي، التي عشت فيها، ومن بينها القاهرة وبيروت، وسجلتُ ملاحظاتي عن المتاحف التي عرفتها ومنها “متحف اللوفر” و”متحف الميتروبوليتان”، و”متحف الفن الإسلامي”، و”متحف قطر الوطني”، وهي أعمال توثيقية رافقتها آرائي ومواقفي الفكرية.
أما كتابَي “وظلم ذوي القُربى”، و“جسور لا أسوار” فهما توثيق دقيق لترشحي ومسيرتي نحو رئاسة اليونسكو وما واجهته من تحديات خلال هذه المسيرة، ولا شك فإن ما فيهما من معطيات توثيقية ستسهم في تقديم تلك التجربة من زاوية العرب وليس من زاوية “الإعلام الغربي”، فقد سارعت إلى توثيقها حتى لا يمر الزمن عن تفاصيلها فيغمر النسيان بعضا منها، فالحاجة إلى الذاكرة أمر لا محيد عنه، وكم نحن بحاجة إلى تسجيل تجاربنا الخاصة التي لها علاقة مباشرة بالوطن وبالقضايا التي تعيشها المجتمعات العربية، فقد كنت في تلك الأيام صوتا للمثقفين العرب الذين عانوا طويلا من إقصاء المتشدقين بحقوق الإنسان وبالتنوع الثقافي وبالتساوي بين الشعوب.
واستمر عملي التوثيقي في كتابي”مسافر زاده الجمال” فسجلت فيه ما جادت به القريحة في لحظات ملهمة وثقتها التكنولوجيا، فاستوعب الإنستغرام النصوص القصيرة، بالإضافة إلى الصور بشأن موضوعات كثيرة منها الشخصيات التي عرفتها وصنعت جزءا من تاريخ أوطانها، وزياراتي للبلدان ولقاءاتي بمثقفيها وقادتها وكبار المسؤولين فيها، كل شيء موثق بالنص والصورة ليبقى أثرا للأجيال، وإنني لأحث صانعي الأحداث على التوثيق الشخصي لإسهاماتهم لما في ذلك من نفع لمجتمعاتهم.