كتبت شيخة غانم الكبيسي
دارت بنا الأيام وانقضت السنون ونحن نتشبث بكل ما ساقته الرياح، فرحين بحظوظنا المتطايرة كورق الصفصاف، مبتهجين بروائحها العطرة، التي تداعب انفاسنا، وهي تبتعد مثيرة قلق رحيلها وكأنها لم تُنبأنا من البداية بأننا نحن العابرون.
حقيقة مرة ولكنها واقع لا يمكن نكرانه، فدوام الحال من المحال.
مقولة تؤكد اننا نعيش هذه الحياة لنخوض التجربة البشرية بكل معانيها وطقوسها الدنيوية في سبيل حياة سرمدية أخرى، ولكننا في خضم دوامة أفكارنا وأعاصير الاحداث المتراكمة، نتوه في الممرات المظلمة، متجاهلين دواخلنا ومكنوناتنا الآدمية، والاقسى هو تشبث البعض بأفكار الآخرين وكأنها طوق النجاة الذي سيوصلهم الى ضفاف الأمان ويحقق لهم الأبدية الزائفة.
وهنا تكمن الإشكالية الأكبر في الفهم الخاطئ والتعصب والتطرف الذي يهيمن على العقل الإنساني لتُسحق البقية الباقية من المشاعر البشرية الفطرية فيحل محلها التوتر والإقصاء والصراع المشحون بغباء الندية.
متى سنفيق من غيبوبتنا لنلاحظ ما يدور حولنا؟
متى سنتفكر في أرواحنا وسلامنا الداخلي؟
الذي يجب ان نحققه لننعم بهذه الحظوظ ونسعد بتحقيق الأهداف، فبنقاء ارواحنا نشكل نواة التعايش، المبني على احترام الاختلافات والميل للتسامح والتعاون مع التفاهم والحوار في جميع المجالات كالتعايش الديني والمذهبي والعرفي واللغوي، لتحقيق قيمة اجتماعية كبرى يحثنا عليها ديننا الإسلامي، كالتراحم وتقديم يد العون عند المقدرة، لنعزز من خلالها قيمنا الثقافية وتحضرنا المجتمعي، واضعين الإنسانية في قمة هرم الأولويات لبناء الأوطان والمحافظة على المجتمعات.
فجميعنا بشر وان اختلفت الواننا أو عقائدنا ومواقعنا الجغرافية، تحتوينا ذات المشاعر التي تقسمنا الى أجزاء متفاوتة ومتغيرة حسب الظروف المحيطة والمجريات الحياتية والعمليات الذهنية التي تتشابك بالحالة النفسية والمزاج والشخصية، لتعصف بجزء منا وتلقيه على حافة الطريق ليتغذى عليه اليأس والقلق، في حين جزءاً آخر يتدارك أمره، حاملاً عبء معاناته مبتسماً مُكملاً مسيرته بتثاقل، بعكس نضيرة متبلد الشعور، الذي ليس بقلبة رأفة ولا تعنيه معاناة الاخرين ومشاعرهم، مجاهراً بالظلم متباهياً بالفساد. أما الجزء الأكبر (ولله الحمد) فهو المتعاطف، الودود، ذو القلب الحي الذي تفيض مقلتاه لمصاب أخيه ويسعى بكل ما أوتي من حيلة لمساعدته وصون كرامته.
وبما ان المشاعر هي القوة المحركة وراء أي سلوك أو دافع، وتمثل ردود للتحركات الداخلية والخارجية، فإننا قد نشعر بالعجز أحياناً أمام ظروف الحياة، بسبب فقداننا للأدوات اللازمة التي تتطلبها تلك المتغيرات المفاجئة، لتدفعنا لا شعورياً نحو البحث عن الأدوات المناسبة والتي تنقصنا لمواجهة الاحداث المستجدة.
وبالرغم من مرارة عجزنا الذي يزلزل القلوب إلا ان آلامه تدفعنا للأمام لنسد الثغرات ونكمل النواقص التي لم ننتبه لوجودها، كحالنا جميعاً اليوم نقف عاجزين أمام مشهد كارثي يعصف بمناطق تركية وسورية تتمتع بكثافة سكانية عالية لم تتوفر أو تكتمل بها البنية التحتية المقاومة لهذا النوع من الكوارث الطبيعية، بسبب قلة مواردها ولعدم حدوث هزات تحذيرية منذ عشرات السنين، مما تسبب بوقوع آلاف الضحايا والجرحى وتشرد عشرات الآلاف بعد تهدم المباني وخسارة عائلاتهم وأقاربهم ليفاقم بؤسهم الشتاء القارس.
مُعلناً عن خطر قادم يدفعنا للتحرك كأفراد وجماعات ومنظمات دولية، لمواجهة تلك الظواهر الطبيعية وسد الاحتياجات الضرورية التي تحمي العنصر البشري وتحفظ له حياته وكرامته.
آن الوقت لننبذ كل مشاكلنا ومشاحناتنا الفارغة، مترفعين عن سفاسف الأمور واضعين نصب اعيننا مصلحة جنسنا البشري، بعد ان اثبتت لنا الليالي الماضية زوال الحال برفة جناح بعوضة، “فما تُمسي عليه قد يفارقك صباحاً وما تُصبح عليه قد يودعك مساءً”، لنتعظ ونتلاحم كشعوب وقيادات، ونوجد حلولاً وأدوات جديدة تُمكننا من مواجهة المصاعب والأحداث التي تحيط بنا.
لنتعايش على هذا الكوكب بقيمنا المشتركة المحورية التي تضيف سمواً للنفس البشرية، باحترامنا قيمة الضمير الاجتماعي وتعزيز الوجود الحقيقي لا الشكلي للتعايش ومنحه الحصانة المستمرة.
إن هذا المبدأ لم يعد مجرد ترف فكري يقتصر على المثقفين، بل هو ضرورة لحماية مستقبل البشرية من أخطار التفرقة والحروب التي تزيد من معاناة الانسانية.
مما يستدعي استنهاض قدرات المجتمعات الإنسانية وتوحيد جهودها، حتى لا يتكرر المشهد ونبدو عاجزين أمام مشاعرنا الحسية وتفاعلاتنا النفسية وبالأخص أمام هذه الكوارث الطبيعية التي بالإمكان ان تكون أقل ضرراً عند امتلاكنا الأدوات اللازمة للحيلولة دون تفاقمها والخروج منها بأقل الأضرار الممكنة عند اتخاذ التدابير اللازمة.