كتبت شيخة غانم الكبيسي
مجموعة ضخمة من الكُتل المتحركة، تنتشر على كوكب واحد، في محيط جغرافي واسع، تتحدث بلغات مختلفة وتعتنق العديد من المعتقدات والعقائد والقيم، يتفاوت مخزونها وتختلف قناعاتها، لتتشارك في بعض الصفات وتتباين بالبعض الآخر، ورغم ذلك تمكن غالبيتهم من التعايش مع بعضهم البعض في فرق وجماعات أو بشكل فردي.
ولكن هناك من ينفر ويرفض متبجحاً هذا التعايش، فيختلق الأسباب ليقاتل ويعتدي ويبطش، وقد ينادي بالتعايش الذي يُلبي احتياجاته هو فقط، كما هو الحال بالعديد من الكتل التي ما زالت تتبنى النظرية النفعية أو الانتهازية، غير مكترثة بحق الآخرين في الوجود والعيش بكرامة، في حين جزء منهم تخلى عن إنسانيته تماماً محيطاً نفسه بأطر مُغلقة أحالته الى جنس لا يمت للبشرية بصلة بل منافياً لها.
كأن تتجاهل كارثة حلت بأخوتنا وترفض تقديم المساعدات المصيرية لإنقاذ الأبرياء من الأطفال والنساء وكبار السن بالرغم من كونهم بمحيطك الجغرافي ويتحدثون نفس اللغة ويعتنقون ذات العقيدة، بل الادهى من ذلك ان تحرك هذه الازمات مشاعر الحقد والكراهية الدفينة الظاهرة في عبارات الشماتة، مُعلنة موت الإنسانية المشوهة التي نجد صعوبة في الغوص بأعماقها بعد كل الأحداث الدموية التي توالت على البشرية من كوارث ومجازر وحروب راح ضحيتها الملايين بُثت صورهم في جميع وسائل الاعلام وبرامج التواصل الاجتماعي حتى ألِف الإنسان منظر الجثث المتراكمة والجدران المطلية بالدماء، فلم يعد بكاء الأطفال يحرك عواطفه المتحجرة، ولا صراخ النساء الثكالى يعصر تبلد فؤاده.
فغدونا نتفهم ذلك عندما تكون هناك صراعات وانتقامات دائرة بين الأطراف ولكن هل يُعقل ان نبلغ مبلغ الوحوش البشرية اثناء الازمات الكارثية ونتجرد من مشاعرنا الفطرية ونحن نشاهد أرواحاً بشرية تحت الركام تنادي وتستنجد من حرمانها للهواء والماء وهو ابسط احتياجاتها البشرية وحقوقها.
اناس لم يجدوا للنومِ سبيلاً طوال أيام لضيق المساحة التي حُشرت بها أجسادهم، فانكتمت أصواتهم وسط صقيع البرد وتجمدت أطرافهم بعد ان توقف عنها تدفق الدماء المتخثرة بسبب تخشب ابدانهم بين لوحين من الاسمنت.
وهن الجسد وزاغت الابصار في ظلام حالك يملأ رئتهم بالغبار الذي لا يملكون استنشاق سواه، ودعاء قلوبهم ينادي وسيلة للخروج أو يداً تمتد بوسط الأنقاض تبلل جفاف حلوقهم وتعيد بصيص الأمل الذي بدأ ضبابياً مع مرور الساعات الطويلة والدقائق الثقيلة التي انقطعت فيها كل مظاهر الحياة التي كانوا يألفونها عندما غاب عن موطنهم كل أماني الحياة إلا البقاء بحدوده.
ولكن الكارثة أبت إلا ان تنثر الملح على جراحهم المتقيحة منذ عقود ليصرخ الجنين ببطن أمه مستغيثاً الخالق ظلم المخلوقات التي حرمت آلاف الأمهات أطفالهن ويتمت مئات الأطفال والرضع من امهاتهم، فتشتتت الأسر بعد أن فقدت عائلها وانكسرت القلوب لآلام محبيها، ليفيق من نجا يجمع على جبهته من تراب الأرض القبلات سجوداً ودعاءً عسى ان تتلطف الاقدار بحماية من تبقى من أسرته، حافراً بأطراف يديه الجحور المظلمة التي تحول بينه وبين أقاربه، ليتبين مقدار قلة حيلته أمام جبال الطوب المتكدسة التي تفضح عجزه ليخر منهاراً بين دموع القهر، فيهيم شارد الذهن تحاصره الذكريات واللحظات الجميلة التي تشاركها معهم، ماضياً بآهات ملأت الشوارع العارية من المنازل، وأقدام متثاقلة تحاول تخطي الحطام المتناثر كيلا تسحق ما تبقى من الجثث المتناثرة بمدينة أجدبت أرضها وأقفلتْ السماءُ وقبضَ الرعبُ على قلوب من تبقى من سُكانها. وسط موجة صقيع تجمدت فيها أبصارهم متسائلة: هل سيكون هناك صباح؟ بعد ليل يعج بأنين لم يبق معه سوى زمجرة الرياح العاصفة.
وهل هناك تحرك لمشاعر الجمود التي خذلت الإنسانية وقيدتها بقوانين دولية ومنظمات عالمية؟
لم تنقذهم وهم على سطح الأرض لتخنق انفاسهم تحت انقاضها.
أما آن للبشرية ان تنصر جنسها لتحتضن الأرض من ولدوا في أكنافها وتربوا في أوديتها؟
اما آن للظالم ان يحذر من شؤم ما اقترفت يداه بعد ان اغلق الحدود ورفض فتح المعابر للأيادي البيضاء.
ألم تنتبه الأصنام لتحرك الطبيعة الجامدة؟
بعد ان ثارت الأرض واهتزت صفائحها لتقول لهم سأكفنكم بالذنوب قبل أن تميتوهم بالشتات، وسأغرقكم بالعار قبل أن تدفنوهم أحياء. فصبرهم هيج الأحزان وصمودهم أشعل نار الكرامة، وسط خذلان المجتمع الدولي وعجز منظماته، لتثير عواطف لم يطب لها التأوه ولكن لذّ لأولئك الاستماع.