شيخة غانم الكبيسي
دوامة الاحتراق الذاتي
نتخبط في وسط حالك، تتعارك فيه الأفكار السوداوية، متلمسين بتوجس مخاوفنا، دون الخوض في غياهب الصدمات التي نظن بأننا كلما ابتعدنا عنها أكثر وتجاهلناها سنكون بمأمن من مشاعرها المؤلمة التي رافقتنا بالماضي، غير مدركين بأن ثمار ما نحن فيه اليوم ما هو إلا نتاج مفعولها السحري المتجدد في أحداثنا اليومية.
فكل المعارك النفسية والمشاعر والأفكار المتراكمة منذ نعومة أظفارنا، تطفو على السطح بين لحظة وأخرى لتُدير دفة القارب المتهالك، بلا طوق نجاة، تجرفه تيارات البحر الهائجة لنعتاد على دوار البحر بين الأمواج العالية ونألف عذرنا الواهن بحتمية الواقع، مكتفين بالدعوات والأمنيات لتهدأ العاصفة قليلاً فنتمكن من التجديف بأطرافنا العارية المتثاقلة عسى أن نبلغ البر الآمن ونهنأ بالراحة والاستقرار النفسي، بالرغم من إدراكنا الحقيقي بعدم امتلاكنا للمرساة التي تُلصقنا بالأرض، لنبقى في ريبة من مجهول قادم يُعكر صفو ثباتنا الوقتي.
شريحة بشرية تدور في دوامة لا متناهية دون إدراك، رافضةً التغيير، متشبثةً بصحة معتقداتها وصواب منطقها الفكري، ولم لا فممارساتها تتناغم مع صدى الفكر المُتبنى، لكون الحياة دائماً تُثبت لك ما تعتقده وتؤكد لك صحة أفكارك بأن تحيطك بالشواهد والحقائق التي تتناسب ومستوى وعيك وقناعاتك بتلك الفترة، لتحقق غنائمك السطحية.
قد يحدث أن تتغير جزئية فرعية في أحد المعتقدات الموروثة أو المكتسبة مما يستدعي أن يتبعها تغير بتوجهك مقروناً باتساع أكبر للمنظور والواقع الحالي، وهنا يتوجب عليك التقبل الضمني لما كان من سابع المستحيلات في نسختك الأولى، لتعود الحياة مرة أخرى باستعراض كل ما يؤكد أفضلية الفكر الحالي ومرونته، حتى تنتقل لمستويات أعلى من الوعي وهلُمَ جرا.
ولا أسرد ذلك تنظيراً، فواقعي وواقع أشباهي يُحاكي المراحل الانتقالية التي تؤكد تغير الفكر وتناغم الحياة لتوطين قناعة مكتسبة بأن الإنسان تتغير خلاياه كل سبع سنوات بالمتوسط، بعد أن ثبت علمياً أن الخلايا الإنسانية تتجدد بعد انتهاء دورتها المحددة.
وبالرغم من اختلاف الباحثين وتباين آراء العلماء، إلا أن هذه المعلومة الصغيرة فككت العقد بتغلغلها بين القيود لتفتح بوابات مضيئة للتجوال في بحور الفكر المتباينة واستنشاق رحيقها العذب الذي تسلل في أعماقي مُنذراً عن عهد جديد لم تكن لي دراية بوجوده.
لأُعلن عن ولادة شخصية مُغايرة.. ليس شكلياً، بل بعمق المشاعر التي باتت تحتويني لمحيطي القريب والمساحات الرحبة في فضاء كوننا الفسيح بجمالياته المعقودة بترانيم الفرح، متسلحة باليقين التام بأنه لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا وإن كان شراً ظاهراً ففي باطنه خير، مُدركة لطف الله بقلوبنا قبل عقولنا، مُغلفة مجراتي العقلية بالطمأنينة بقدرته وعظمته التي تحيط بنا وبدقائق أحوالنا، متسلحة بالهدوء لبلوغ قاع الصدمات وعبور كهوف القلق التي ظننت بأنني قد تجاوزتها، لأتحسس مواضع الجروح وأفقأ دمامل الألم، مستحضرة كل تفاصيلها المزعجة ومشاعرها المكبوتة، بعد أن بات عفنها مزعجاً لمن هم حولي.
لم يكن الأمر سريعاً أو هيناً ولكن العودة لفتح تلك الملفات البالية ورفع طبقات الغبار المتكدسة حولها، خفف من حملها لتطفو على السطح مستسلمة لملمة أطرافها وتوابعها وآثارها لتكديسها في حقيبة صغيرة تمهيداً لرميها في سلة المنطاد المتحفز للتحليق، مُغيباً عن الأنظار.. أراقبه ملوحة لوداع دون رجعة، مؤكدة تصالحي معها وأفضلية حياتي بدونها.
لذا، حاول أن تدرب عقلك على فكرة أن لكل معضلة حلا قد لا تراه الآن ولكنه موجود، فلا تُلقِ اللوم على الآخرين وتطلب منهم أن يتغيروا ليتناسبوا مع رغباتك ومتطلباتك.
ابدأ بذاتك.. غَيِّرها.. نظفها من الشوائب والصدمات، لتتخلص من مخاوفك وقلقك.. ثم لاحظ الأفكار التي تتبناها وحَدِّد مصادرها دون استعجال، لاستئصال الضار منها وتعزيز النافع، فبالتدرج ستحصل على التغير الذي يناسبك وينسجم مع منظورك وبالتالي ستتغير أحداثك وسيتناغم من هم حولك بتغيرك، مما سيحيطك بغلاف مريح من الرضا النفسي الذي سيجعلك تتقبل كل ما هو مختلف، وتؤمن بأن ما يناسبك اليوم قد لا يناسبك غداً وما كان غير ملائم بات اليوم مناسباً جداً، لتخرج من دوامة الاحتراق الذاتي التي شَلَّت أفكارك، نغَّصَت سكونك، أربكت حياتك واستنزفت طاقاتك بمخلفات الصدمات التي ليس لك يد فيها أو ذنب لتحرمك متعة الاستمتاع بوقتك الحالي.