الهديل

عودة: ماذا يـنـفع “عــقــم” ســيـاسـاتـهـم أمام “مـشهـد” إنــتحار مـواطـن؟

عودة: يرفعون شعارات ويعملون عكسها

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس.

بعد الإنجيل، ألقى عظة قال فيها: “يدعى الأحد الأول من الصوم الأربعيني المقدس «أحد الأرثوذكسية»، أو «أحد انتصار الأيقونات المقدسة». هاتان التسميتان تعبران عن معنى الإيمان القويم الذي يحدثنا عنه نص رسالة اليوم حيث يقول الرسول بولس: «يا إخوة، بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابنا لابنة فرعون، مختارا الشقاء مع شعب الله على التمتع الوقتي بالخطيئة، ومعتبرا عار المسيح غنى أعظم من كنوز مصر، لأنه نظر إلى الثواب. الأرثوذكسية ليست اسما يحمله أعضاء جماعة أرضية، بل هي إيمان مستقيم يوصل من يحياه إلى ملكوت السماوات، إلى ملاقاة الختن البهي ومشاركة فصحه السري. كثيرون يزعمون أن إيمانهم بالرب كبير، إلا أن الرب يسوع قال: «لو كان لكم إيمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون لهذا الجبل: انتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم» (مت 17: 20)”.

أضاف: “أساس الإيمان القويم هو التواضع الذي به يحصل الإنسان على الرفعة، كما نرتل في كنيستنا للقديسين الذين كانوا رؤساء كهنة: «أحرزتم بالتواضع الرفعة، وبالمسكنة الغنى». المؤمن الحقيقي لا يقبل زيغانا في الإيمان القويم، وهذا ما عناه الرسول بولس عندما أخبرنا أن موسى رفض البنوة لابنة فرعون، التي كانت تعتبر نصف إلهة، لأن الشعب كان يعبد فرعون مصر كإله مخلص. لقد هرب موسى من الخطيئة، ولو على حساب عودته إلى الفقر والشقاء، مع شعبه العبراني المؤمن بالإله الحق خالق الكل، لأن الله بالنسبة إليه كان الكنز الأعظم من كل كنوز الأرض الفانية. هذا مثال عن الإيمان القويم الذي نفتقده في أيامنا، حيث أصبح كثيرون يختارون مصلحتهم قبل إيمانهم، كإعطاء أبنائهم أسماء بعيدة عن أسماء القديسين خوفا عليهم من إضاعة  فرصة عمل إذا هاجروا إلى بلدان ذات إيمان مختلف، أو التخلي عن إيمانهم سعيا وراء أمجاد هذا الدهر الباطلة، وهذا الأمر موجود منذ نشأة المسيحية، لهذا ذكر الرسول بولس المؤمنين بسيرة موسى لكي يعود مثل أولئك عن سعيهم الدنيوي. ولكي يدعم فكرة الثبات على الإيمان القويم، يعطينا الرسول أمثلة كتابية أخرى من آباء وأنبياء تمسكوا بصخرة الإيمان رغم أنواع التعذيبات والآلام التي كابدوها، لذا ليس غريبا أن نرتل في زمن الصوم المبارك: «لقد ثبتني على صخرة الإيمان ووسعت فمي على أعدائي»، لأننا باتكالنا على مخلصنا وتشبثنا بالإيمان به نقهر كل الأعداء المنظورين وغير المنظورين، بأسلحة البر. يقول الرسول بولس: «إلبسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكائد إبليس، فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات. من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير، وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا. فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق، ولابسين درع البر، وحاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام، حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة، وخذوا خوذة الخلاص، وسيف الروح الذي هو كلمة الله» (أف 6: 11-17).

وتابع: “نفهم من كلام الرسول أن الإيمان ترس، أي هو الحامي لكل الفضائل التي على المسيحي التحلي بها. إنه ترس ضد مكائد الشيطان الذي يجتهد في سبيل إسقاط الإنسان من خلال رميه بوابل سهامه النارية المضرمة للخطايا والشهوات. لذلك لا يقدر أي سلاح يظن المؤمن أنه يحمله، كالتواضع مثلا، أن يقوم بمهامه الكاملة بلا إيمان يحميه من الوقوع في فخ الحقد والظلم والكبرياء القاتلة. لذا، يحثنا الرسول بولس قائلا: «جربوا أنفسكم، هل أنتم في الإيمان؟ إمتحنوا أنفسكم» (2كو 13: 5). هنا، يأتي دور الأيقونات التي نعيد لانتصار المدافعين عنها اليوم، بعدما منع رفعها لفترة من الزمن بتهمة عبادة المادة المصنوعة منها. إلا أن الأيقونة الأهم هي من صنع الله، وهي الإنسان الذي خلقه على صورته ومثاله. لكن الإنسان خسر المثال عندما سقط في الخطيئة، فجاء آدم الثاني، المسيح الإله، ليؤله الإنسان، أي ليعيده إلى الكرامة الأولى قبل السقوط. المسيح هو الأيقونة الأكمل للآب، وقد قال يسوع لتلميذه فيلبس: «من رآني فقد رأى الآب» (يو 14: 9)، واليوم فيلبس يدل نثنائيل على المسيح قائلا له: «تعال وانظر». في هذه الكلمات دعوة لجميع المسيحيين كي يقبلوا نحو الرب وينظروا، متعلمين كيف يعودون إلى المثال، أي إلى الكمال، كما أن الآب السماوي كامل (مت 5: 48). الأيقونة تدلنا إلى عنصرها الأول، وهكذا الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، الساعي إلى الكمال، لا يكون حجر عثرة لإخوته البشر، بل نورا يضيء ظلمتهم كما قال السيد: «هكذا فليضئ نوركم قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الصالحة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات» (مت 5: 16)”

وقال: “في هذا اليوم المبارك، ندعو جميع المسؤولين، كونهم من البشر المخلوقين على صورة الله ومثاله، ألا يمعنوا في إعثار إخوتهم المساوين لهم في الخلق والكرامة. فقد أوصلوا الناس إلى حد الكفر بدلا من أن يسهروا من أجل خلاصهم، وتناسوا أنهم سيقدمون حسابا عن ذلك. نحن نعيش في بلد ديمقراطي، يحكمه دستور واضح، والقاعدة فيه تداول السلطة، لكن ما نشهده في الواقع هو تنازع على السلطة، ومتى وصل أحدهم إلى مركز يصبح من الصعب إقصاؤه عنه، وكأنه أصبح حقًا مكتسبًا. وإن حصل أن تنحى أحدهم فالمركز يؤول إلى خليفته، أحد أبنائه أو أقاربه أو مختاريه، ولو على حساب الدستور والقوانين ورأي الشعب. كيف تريدون أن يتطور بلدنا وأن يخرج من مأزقه والوجوه الحاكمة هي نفسها التي أوقعته في المأزق؟ يرفعون شعارات ويعملون عكسها. يدعون العفة والاهتمام بشؤون الناس ويطبقون على ما تبقى من أموال الناس وأنفاسهم. والمؤسف أنهم يتبادلون الإتهامات فيصبح الكل متهما والكل بريئا. من أوصل البلد إلى ما هو عليه؟ من المسؤول عن انحلال الدولة وعن هذا التدهور الإقتصادي القاتل؟ من يعرقل الإصلاح؟ من يمنع محاسبة الفاسدين؟ هل أصبح المواطن عدوا للمسؤولين؟ ماذا ينفع عقم سياساتهم أمام مشهد انتحار مواطن يئس من حياة الذل والقهر؟”

وسأل: “من بذر أموال الناس؟ من منع النور عنهم وأجهض كل خطة إصلاحية؟ من فجر بيروت ومرفأها وسكانها؟ من يعطل عمل القضاء ويمنع ظهور الحقيقة؟ من عطل دور لبنان الدبلوماسي والثقافي والتربوي والإستشفائي والمالي ولحساب من؟ من سبب تهجير الناس وتجويعهم وسلب الأمل من نفوسهم؟ ومن يعطل انتخاب رئيس للبلاد؟ ومن عطل تشكيل الحكومات ومتى تألفت عطل عملها، لأن الوزراء لا يشكلون فريق عمل متجانسا بل يتبعون مرجعياتهم وينفذون برامج من سموهم؟ هل يعي المسؤولون نتيجة أعمالهم وتأثيرها على المجتمع؟ كل منهم يفكر بنفسه ومصالحه. ماذا عن مصلحة المواطنين؟ وعوض محاولة حل المشاكل والخلافات ينقادون بالحقد الذي يعمي البصيرة ويعيث الخراب عوض الإصلاح. العنف بشتى مظاهره مدمر. العنف الكلامي والسلوكي يدمر كالسلاح. فلم لا يعود كل مسؤول إلى نفسه ويتعلم من دروس الماضي، وعوض التركيز على ما يفرق لم لا يفتشون عما يجمع؟ كفى تعنتا وإهانة لأيقونات الله المسكوبة بشرا، التي تشن ضدها حرب جديدة مدمرة عوض حفظها بهية ومكرمة”. 

وختم عودة: “صلاتنا اليوم أن يؤهلنا الرب لأن نكون مؤمنين به حقيقيين، أيقونات حية توصل الجميع إليه، لأنه المخلص الأوحد، ولا نجاة لنا إن لم نثبت على صخرة إيماننا ورجائنا به ومحبتنا له”.

 

Exit mobile version