في هذا اليوم الذي يحيّي فيه العالم النساء، وتعبّر فيه المجتمعات عن تقديرها للأدوار التي يقمنَ بها، نحتاج نحن في لبنان، نساءً ورجالاً، إلى وقفة مع الذات.
ففي خضمّ الأزمات السياسية والاقتصادية، لنا أن نتساءل عن أزمة وجوديّة يعيشها كلٌّ منّا. أين يرى الفرد من بيننا، امرأة كان أم رجلاً، موقعه في المجتمع؟ وكيف ينظر هذا المجتمع إلى نفسه؟ لعقود خلت، ظننّا أنّ مجتمعنا هو في طور النمو وأنه سائر لا محالة إلى الأمام. لكن وبعد مرور أكثر من مئة عام على نشوء دولتنا، يصعقنا يوماً بعد يوم مشهد التردّي الذي يصيب جميع جوانب الحياة العامة. فهل صحيح أنّ الأزمة التي نعيشها تصيب فقط مؤسسات الدولة؟ وأصلاً من هم “ناس” هذه الدولة؟ ما هي قناعاتهم؟ هل صحيح أنّ دين كلّ واحد منهم يحكم تصرفاته، فيصنّفون على أساس انتمائهم الديني؟ هل صحيح أنّ الأديان السماوية تحكم على النساء بالتغاضي عن انتهاك حقوقهن الإنسانية للحفاظ على تماسك المجتمع؟ وإلى ماذا يصبو هذا المجتمع الذي يزداد تخلّفاً في كلّ يوم يزداد فيه السكان فقراً، ويتعطل فيه التلامذة عن العلم، ويتقاعس فيه المسؤولون عن إنصاف النساء؟ تساؤلات تفرض نفسها على اللبنانيين واللبنانيات في وسط الأزمة المتمادية، وتجبرنا جميعاً إلى النظر إلى واقع حالنا بتجرّد.
نعم، نحن مجتمع، تخلّف، لأسباب شتى عن السير في ركاب التقدّم والنمو. وصحيح نحن مجتمع متنوّع، ولكن عوضاً أن يكون هذا التنوّع مصدر ثراء فكري وثقافي، جعلناه مصدر خلاف وخراب. ونحن قبل كلّ شيء مجتمع منقسم على ذاته يميّز بين نسائه ورجاله ولم يدرك حكامه بعد، أنّ الزمن ولّى الذي كان فيه من الممكن أن يحتكر فيه الرجال بمعزل عن النساء، القيادة والحكم والتشريع.
اليوم، في لبنان وفي سائر المنطقة العربية، بدأت تظهر بوادر تشير إلى توجهات مغايرة، فمسيرة تعليم النساء التي انطلقت منذ أواخر القرن التاسع عشر بدأت تكتمل، ووسائل التواصل الحديثة تساهم في فكّ العزلة عن أكثر المجتمعات انغلاقاً. وفي لبنان أثبتت التطورات فشل نموذج اجتماعي اعتمد كنظام له، انغلاق الطوائف على نفسها، ولم تتجرأ فيه الدولة على تخطي قواعد على هذا الانغلاق بل اقتبست منه مسوغات، لعدم اعتراف القانون المدني بحقوق المواطنة كاملة للمرأة، ولعدم الإقدام على الإصلاح لتصحيح الخلل في تكافؤ الفرص بين النساء والرجال في المجالين السياسي والاقتصادي.
مع ذلك تواصل اللبنانيات، ومعهن اللبنانيون المدركون للمخاطر المهدّدة لكيان البلد اليوم، مسيرة الإصلاح التي بدأها النهضويون في بدايات القرن الماضي. وفي الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية، نتعاون مع جميع المعنيين لتعزيز أوضاع النساء وتحقيق المساواة بين الجنسين ولتحقيق الإصلاح التشريعي والتمكين الشخصي والعلمي والاقتصادي للنساء ولتطوير النهج الثقافي السائد تقليدياً بشأن المرأة وأدوارها. وقد استخلصنا في الهيئة الوطنية من تجارب عملنا في مجال قضايا المرأة، أنّ المقاربة الصحيحة لهذه القضايا تكون عبر تناولها بصفتها قضايا مجتمع تعني الرجال كما تعني النساء. كذلك تثبّتت لدينا أهمية إبراز البيانات الإحصائية والمؤشرات الدالة على الترابط القائم بين مدى تكافؤ الفرص المتاحة للنساء وتلك المتاحة للرجال، وبين تحقيق الإنماء الاجتماعي. وثبّتت لنا أيضاً أهمية تحقيق المرأة لاستقلاليتها الاقتصادية لتنمية قدراتها الشخصية وقدرات أسرتها ولتمكينها من التصدّي للعنف إذا ما تعرّضت له. كذلك ثبّتت لدينا أهمية تطوير الصفات الريادية لدى الفتيات منذ عمر مبكرة بغية تنمية شخصيتهن وتمكينهن كشابات، من استثمار قدراتهن في جميع مجالات العلم والعمل.
وتبيّن لنا أيضاً أنّ تنمية القدرات الذاتية للنساء غير كافية لتطوير أوضاعهن. فإنصاف المرأة في حقوقها الإنسانية والزوجية والعائلية والمدنية والسياسية، يتطلب اعتماد قانون مدني للأحوال الشخصية يساوي بين حقوق النساء والرجال كما يتطلب الاعتراف بحقها كمواطنة بكلّ معنى الكلمة في نقل جنسيتها إلى أولادها، أياً كانت جنسية والدهم، ويتطلب أيضاً إجراءات عملية تؤمّن حمايتها من التعرّض للعنف. وبغية إصلاح القوانين، لا بدّ من ورشة واسعة يقدم عليها المجلس النيابي لتنزيه كلّ القوانين من الأحكام التمييزية ضدّ المرأة، كما ينبغي للبرلمانيين أن يعوا الدور الإصلاحي الذي لهم أن يقوموا به في تبني قوانين لا تكتفي بالتعبير عن مواقف المحيط الذي يمثلونه، بل تكون هادفة لإصلاح الممارسات الاجتماعية السلبية ضدّ المرأة التي ما زالت سائدة وتفرض، حيث يكون الأمر ضرورياً، إجراءات مرحلية تمييزية لصالح المرأة بغية التعجيل في إحقاق المساواة الفعلية بينها وبين الرجل.
تجلت لنا أيضاً من خلال خبرتنا في العمل، الأهمية المركزية للتربية في تصحيح الممارسات السلبية ضدّ المرأة، وأهمية تنشئة الفتيان كما الفتيات على قيَم المساواة واحترام الآخر ونبذ التصرفات العنفية وتقاسم أعباء مسؤوليات الرعاية المنزلية والأسرية بين المرأة والرجل.
نعيش اليوم في لبنان عند منعطف، ويتطلب منّا سلوك طريق التعافي والنهوض، القيام بثورة حقيقية في أنماط تفكيرنا وتصرفاتنا. فالمطلوب اليوم هو القيام بثورة ثقافية تفتح آفاق المستقبل أمام شاباتنا وشبابنا. وهذه الثورة لن تكون ممكنة من غير مشاركة أهل الفكر والعلم وقادة الرأي والمسؤولين عن التشريع وعن الإرشاد الروحي. فلكلّ دوره في تكوين ثقافة جديدة لمجتمعنا تقوم على العدل والمساواة، تنبذ التمييز ضدّ النساء وتقيم أسساً جديدة لبناء وطن، وتعتمد في إدارته قواعد الحوكمة الرشيدة.
*كلودين عون
*رئيسة الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية