الهديل

د. حمد الكواري والإرث الثقافي لمونديال قطر

نجاح مونديال قطر يتطلب خطة متكاملة للمحافظة على ماحققه من إنجاز

ضمن فعاليات «موسم الندوات 2023» الذي تنظمه وزارة الثقافة القطرية في نسخته الثانية، بالتعاون مع جامعة قطر والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومكتبة قطر الوطنية في الفترة من 4 وحتى 19 مارس الجاري، عُقد يوم الأربعاء 8/3/2023 ندوة بعنوان ” الإرث الثقافي للمونديال”، للدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية للحديث عن مونديال قطر 2022،

وذلك بحضور الشَّيخ عبد الرحمن بن حمد آل ثاني وزير الثَّقافة، والدكتور حسن بن راشد الدرهم رئيس جامعة قطر، وجمع من المهتمين بالشأن الثقافي وإعلاميين وعدد كبير من الجماهير التي تفاعلت بشكل كبير مع الدكتور الكواري بعد انتهاء محاضرته.

 

ومما جاء في كلمة الدكتور الكواري:

أعترفُ لكم في البداية بأنّه لم تكن تربطني بكرة القدم وشائج كبيرة، ولكنّ مونديال قطر شكّل نقطة تحوّل عندي، وأدركتُ أهمية كرة القدم ليس فقط باعتبارها مجرّد رياضة بل لارتباط الملايين من البشر في العالم بها، ممّا يجعل لها أبعادا ثقافيّة واجتماعيّة تتخطّى الرياضة، وأعتقد أنّ ما حدث لي من تحوّل في النظر إلى كرة القدم هو إدراك مشترك مع كثير من المثقفين في العالم.

قطر بمؤسساتها الثقافية وخبرتها في الثقافة ما يمكنها من أن تجعل من الدبلوماسية الثقافية رديفاً للدبلوماسية الخارجية الناجحة

وقال: ليس من الغريب أن يتضمّن موسم الندوات في دورته الثانية موضوعا يتعلّق بمونديال قطر، بل إنّني أثني على هذا الاختيار الذي يعكس فهما للظّواهر الثقافية التي تحتاج إلى دراسة واستفادة، ويعدّ موضوع «الإرث الثقافي للمونديال» من الموضوعات المهمة التي تندرج ضمن قضايا السّاعة الفكريّة والثقافيّة، فقد ارتبط المونديال بالأبعاد الثقافيّة وهو ما أشار إليه حضرة صاحب السموّ الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدّى حفظه اللّه: «إننا لن نمنع أي شخص من القدوم إلى بلدنا والاستمتاع بكرة القدم، وإنّنا نحترم كلّ ثقافات العالم، ونتوقع من الجميع احترام ثقافتنا»، فلقد حدّد صاحب السمو بشكل واضح الموقف الثقافي لدولة قطر من هذا التواجد الدولي وبيّن الهدف منه بالإضافة إلى مهمّته الأساس وهي الرياضة، وهو أن يكون المونديال مناسبة لتأكيد التفاعل والاحترام المتبادل بين الثقافات، ولم يكن هذا القول مجرّد شعار لفظي ولكنّه تجسّم على أرض الواقع ليكون ممارسة ناجحة أثبتت أنّ دولة قطر لن تتخلى عن قيمها الثقافية وستتدخل لمنع التجاوز لهذه القيم عندما يحاول البعض ذلك. وقد قدمت قطر ثقافتها وقيمها على امتداد فترة المونديال، فأتاحت للزوار من الثقافات المختلفة التعرف على ديننا وثقافتنا وقيمنا الاجتماعية وتأكيد مبدأ الاحترام المتبادل بين الثقافات.

ولذلك لم يكن هذا الحدث مجرّد مناسبة رياضيّة عابرة بل هو منعطف تاريخي لقطر وللعرب ولكلّ الدُّول التي تسعى لرقيّ الحضارة الإنسانيّة، حتّى أنّني أعتبر هذا المنعطف بنقطة استئناف الحضارة العربيّة لدورتها.

وأوضح الدكتور الكواري أن الهدف من وراء مداخلته هو العمل بما نادى به طويلاً، وهو ضرورة تفعيل مكتسبات نجاح المونديال على المستوى الثقافي، مشيرا إلى أن أوّل ما يتجلّى من أثر هذا النجاح الذي أبهر العالم هو إثبات القطريين لقدرتهم على خوض التحديات وكسبها على منوال ما قام به الأجداد حتّى صارت استجابتهم لما يعترضهم منها جزءًا من شخصيّتهم الوطنيّة، فقد أبهر القطريّون العالم بأسره بالتنظيم المحكم وبالإنجازات الضّخمة التي شملت البنية التحتيّة من ملاعب وطرقات ووسائل نقل ساعدت على أن يقام المونديال في أفضل الظروف وبشروط الاستدامة، وهو ما سيبقى علامة فارقة لأجيال من القطريين في العقود القادمة.

 

وقال إن هذا النجاح لم يقتصر على تنمية دافعيّة العمل والإتقان لدى أبناء المجتمع القطري فحسب، بل إنّ فضيلة هذا النّجاح الكبير أنّهُ أعاد التفاؤل والأمل إلى العالم العربي في مرحلة تحتاج فيها الأجيال العربيّة إلى نماذج مُلهمة للفعل الحضاري مثل حاجتها إلى الإيمان بقدراتها والخروج من أسر تلك الصّورة الدونيّة التي رسمها لها الفكر الاستعماري الجديد.

وأكد د. الكواري خلال المحاضرة أن من النتائج الرّئيسيّة للمونديال استعادة الدور الأساسي الذي تلعبه الثقافة في تقديم الصّورة المثلى لدولة قطر، التي أعادت «الثقافة» إلى قلب الاهتمامات الدّوليّة، باعتبارها محددا مهمّا لطبيعة العلاقات الدوليّة، فقد كانت الحملة التي تعرّضت لها قُبيل انطلاق كأس العالم «حملة ثقافيّة» بالدرجة الأولى، وكان التعاطي معها ثقافيّا. هناك من كان يجرُّ نحو «صدام الحضارات» وبينما كانت المباريات تدار على أرضيّة الملاعب العجيبة والسّاحرة، كانت مباراة كبرى تُدار على أرضيّة الثقافة العالميّة بين دعاة الصّدام ودُعاة الحوار والتعارف.

وقال إن المونديال احتوى على تعبيرات ورسائل ثقافيّة منحت البطولة طابعًا استثنائيّا، وأكّدت على قيمة القوّة الناعمة حيثُ أثّرت مختلف تلك التعبيرات الثقافيّة على ملايين المُشاهدين في العالم. وهذا ما يؤكّد من جديد فاعليّة الدبلوماسيّة الثقافيّة التي تُعدّ الدبلوماسيّة الرياضيّة جزءا منها، إذ تحتاج الدول دائما إلى وسائل ثقافيّة لترويج ثقافتها وتعزيز حضورها في العالم، وقد كان المونديال اختبارا حقيقيّا لجدوى هذه الدبلوماسيّة التي تتطلّب اليوم مزيدا من العمل من أجل المحافظة على مكتسباتها والاستمرار في تنويع أدواتها.

وأوضح أن قطر قد احتضنت على امتداد شهر كامل جمهورا من مختلف دول العالم، ومن ثقافات ولغات ومعتقدات وأعراق متنوّعة، وكان التحدّي الأكبر يتلخّص في وضع قيمنا وثقافتنا على محكّ التواصل مع هذا التنوّع الإنساني، وقد كسب المجتمع القطري رهان التواصل الحضاري بجدارةٍ أدّت إلى إحداث «صدمة الغرب»، الذي اعتبر بعض المناوئين فيه للعرب والمسلمين بأنّ مدوّنتنا القيميّة عاجزة على قبول الثقافات الأخرى، وبأنّ الإنسان العربي عاجز على الإسهام في الحضارة الإنسانيّة.

وأكد أن الدولة ومن خلال المونديال قدمت درسًا في مفهوم التبادل الثقافي ألا وهو احترام الخصوصيّات الثقافيّة وليس الإذعان إلى فرض تعبيرات ثقافيّة تتعارض مع سلّم القيم العربيّة الإسلاميّة.

لذلك كانت الفعاليات الثقافيّة للمونديال تعزّز مسألة الهويّة، وتؤكّد بأنّ الثقافة العربيّة الإسلاميّة هي جزء من الهويّة الوطنيّة، فكان من رهانات القطريين تقديم ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم باعتزاز كبيرٍ ممّا أكسب المونديال طابعا استثنائيّا، وكانت إقامة الصّلاة والآذان من العلامات التي جلبت التقدير، مثلما كانت حفاوة القطريين بالجماهير في كلّ مكان ترجمة صادقة لكرم الضّيافة، وفرصة لتقديم صورةٍ حقيقيّة عن طبيعة القيم الاجتماعيّة التي عاش بها الأجداد وتوارثناها جيلاً بعد جيلٍ، ممّا عكسَ وحدة المجتمع القطري ثقافيّا واجتماعيّا في التّعاطي مع مختلف ظواهر المونديال.

 

وقدم الدكتور الكواري مجموعة توصيات لتواصل هذا النجاح الذي خلفه مونديال قطر أولها أن تكون هناك خطة متكاملة للتعامل مع مرحلة مع بعد المونديال والبناء على ما تحقق من نجاح وتحويل البنية التحتيّة إلى فضاءات لحركة ثقافية واقتصادية ورياضية تجعل من قطر مثلا يحتذى في نجاح متواصل.

المونديال هو منعطف تاريخي لقطر وللعرب

وأشار إلى مؤتمر الأمم المتّحدة المعنيّ بأقلّ البلدان نموّا، وانعقاده بهذا المستوى الرفيع من رؤساء الدّول ورؤساء الوزراء، واختيار حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدّى رئيسا للمؤتمر، وهو دليل على تقدير وثقة العالم في دولة قطر وقيادتها الحكيمة، معتبرا هذا نموذجا لاستثمار قطر لمكانتها الدوليّة وللنجاح الكبير الذي حققته في المونديال والاستفادة من الخبرة التنظيميّة والبشريّة ومنها توفير المقرّات لاستيعاب الآلاف من المؤتمرين والحكمة في القيادة القادرة على احترام العالم وإيصال المؤتمرات إلى أهدافها.

وقال إن من يؤرّخ للدبلوماسية الثقافية أو الناعمة، سيتّخذ من مونديال قطر أوضح مثال لهذه الدبلوماسية، وعلى الدبلوماسية القطرية الناجحة أن تستفيد من هذا الإنجاز وتجعل من الدبلوماسية الثقافية رديفا لها وتستفيد من مؤسساتنا الثقافية، كما أكد الدكتور الكواري على أهمية نشر ثقافة التوثيق في مجتمعنا، مؤكدا أن مكتبة قطر الوطنية بما تملكه من إرادة وخبرة وكفاءات فنية قادرة على المساهمة الأكبر في القيام بهذه المهمة بالتعاون مع الجميع.

فن التوثيق وتأصيله دور رائد لمكتبة قطر الوطنية

يُذكر أن موسم الندوات يتضمن 5 ندوات، ويعتبر منصة حية وفضاء رحبا لإبراز الثقافة الوطنية وإثرائها بالتفاعل مع الثقافات العالمية، فضلا عن دوره الأساسي في تعزيز الحوار بين المفكرين وأجيال المثقفين حول قضايا محورية تهم قطاعات واسعة من المجتمع.

Exit mobile version