نظّم ملتقى بيروت في مقره لقاءًا حوارياً مع الوزير السابق الأستاذ بطرس حرب حول: هل نحن على مشارف تغيير النظام؟ حضره النائب الأستاذ فؤاد مخزومي والوزيران السابقان الدكتور خالد قباني والعميد حسن السبع ومدير عام وزارة العدل سابقاً القاضية ميسم النويري وحشد من الشخصيات القانونية والثقافية والاجتماعية، ومن الناشطين في المجتمع المدني.
بدأ اللقاء بكلمة ترحيب بالمشاركين من رئيس الملتقى الدكتور فوزي زيدان، جاء فيها: بدأ يتردد في الآونة الأخيرة على ألسنة شريحة من اللبنانيين غالبيتها مسيحية، بعضها سئم من مقولة العيش المشترك مع لبنانيين يعملون ضد مصلحة وطنهم لأهداف محاور خارجية تتعارض مع رغباتهم وتطلعاتهم وأهدافهم، فانتهكوا بفائض قوة السلاح الذي يمتلكونه السيادة الوطنية، وسيطروا على قرار الدولة ومؤسّساتها ومقدراتها، وبعضها الآخر يجد نفسه في اختلاف ثقافي وإلى حدّ ما حضاري مع اللبنانيين الآخرين.
هذه الشريحة من اللبنانيين التي تريد أن تعيش بأمان واستقرار في وطن تسوده المساواة والعدالة تطالب بتغيير النظام المعمول به حالياً إلى النظام الفيديرالي، لاعتقادها بأنّ الفيديرالية تجعلها تعيش بمنأى عن المشكلات التي تسبّبها الجماعات الملتحقة بالمحاور الخارجية تنفّذ أهدافها وتفرض سطوتها على مجموع الشعب اللبناني. لكنها لم تدرك بأنّ الفيديرالية ليست هي الحلّ لأنّ أساس مشكلات لبنان تكمن في السياسات الخارجية والدفاعية والمالية وهي سياسات تبقى في النظام الفيديرالي في يد الحكومة المركزية.
وقال هناك أسئلة عديدة تتطلب من المطالبين بالفيديرالية الإجابة عليها منها، هل ستكون الفيديرالية مناطقية يعيش فيها اللبنانيون من كل الطوائف بحرية ومن دون تفرقة، أم فيديرالية طائفية، وهي ستكون في غالب الظن كذلك، عندئذ هل سيُسمح لغير المسيحيين السكن والتملك فيها أم ستكون حكراً على المسيحيين فقط؟ والأخطر من ذلك إذا كان تخطيط المطالبين بالفيديرالية كي تكون الخطوة التمهيدية نحو التقسيم والطلاق مع اللبنانيين الآخرين من الطوائف الأخرى.
وهناك أيضاً شريحة أخرى من اللبنانيين في مجملها شيعية تعتقد أنها مغبونة في النظام الحالي، وهي تعمل بطريقة غير مباشرة على تعديل النظام إلى المثالثة، بما يضمن لها موقعاً مؤثّراً وفاعلاً في التركيبة اللبنانية.
وأردف قائلاً: الفيديرالية ليست هي الحلّ، وكذلك المثالثة لأنّ لبنان كما وصفه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بـ”وطن الرسالة”، رسالة العيش المشترك السويّ بين المسلمين والمسيحيين، قائم على التعدّدية والمناصفة وليس على العددية، كما أنّ التقسيم هو مشروع حرب أهلية.
وتساءل إذن ما هو الحل .. وأجاب بأنّ الحلّ في يكمن في رأيه بتطبيق اتفاق الطائف تطبيقاً كاملاً وسليماً، وتفسير البنود الملتبسة فيه التي أدّت إلى تباينات وخلافات بين المسؤولين، تفسيرأً واضحاً لا لبس فيها. ومن البنود التي يجب العمل على تطبيقها اللامركزية .. بحيث تكون لامركزية إدارية موسّعة ولا مركزية مالية، بما يخفّف عن المواطنين مشقة الانتقال إلى المركز، ويؤمّن الإنماء والتنمية إلى المناطق، ويكون المسؤولون المحليون مكشوفين للمساءلة والمحاسبة أمام ناخبيهم.
ومن أجل استتاب الأمور يجب أن يكون السلاح حصراً في أيدي القوات العسكرية والأمنية الرسمية، وأن يوضع سلاح حزب الله بأمرة الجيش اللبناني، كذلك الحال بالنسبة لقرار الحرب والسلم الذي يجب أن يكون بيد الدولة. أما بالنسبة للسياسة الخارجية فالحلّ يكون بحياد لبنان عن المحاور الإقليمية والدولية، وهذا لا يعني تخليه عن عروبته ووقوفه مع الدول العربية في مساندة القضايا العربية المحقة والدفاع عنها في المحافل الدولية.
ويحتاج تنفيذ هذه الأمور إلى قرار إقليمي – دولي حازم.
وبدأ بعد ذلك الوزير حرب في إلقاء كلمته، ومما جاء فيها: أن يصبح مصير النظام السياسي القائم موضع تساؤل وقلق في الأجواء الماساوية التي يعيشها اللبنانيون وصراعهم من أجل الحياة والبقاء، بالنظر لما تعرّضوا له من نكبات متلاحقة ومذلّة. ولا أخفي أنني بتّ مفتنعاً أنّ ما جرى في لبنان منذ عقود، ولا سيّما بعد العام 1990 هو تدمير منهجي للدولة، وانتهاك للمواثيق الوطنية، وجريمة موصوفة بحقّ الوطن تقارب بفداحتها حدّ الخيانة العظمى.
أستطيع أن أجزم أنّ المشكلة ليست في النظام الذي نعتمده، بل في من تولى إدارته وسكت عنه، من مسؤولين ومواطنين بالسواء.
فلبنان الوطن والدولة قد توحّد جغرافياً عام 1920 بقرار دولي عند إعلان دولة لبنان الكبير، وتوحّد الشعب بعد معركة الاستقلال عام 1943، في إطار دولة ديموقراطية سيدة مستقلة حرّة، مبنيّة على الميثاق الوطني الذي قام على قاعدة “لا للشرق ولا للغرب” وتصميم اللبنانيين على الحياة المشتركة للطوائف المختلفة، والعمل على إلغاء الطائفية من نظامنا السياسي. إلا أنه تبيّن بعد الممارسة، أنّ اللبنانيين لم يقتنعوا بالمراهنة على قيام وطنهم ودولتهم الواحدة بصورة نهائية مؤبّدة.
وجاء اتفاق الطائف لحلّ القضايا العالقة بين اللبنانيين ولإخراج السوريين من لبنان بعد إخراج السلطة الفلسطينية منه، إلا أن التطورات الدولية والإقليمية أطاحت به، ولقد تكيّف اللبنانيون مع هذه التطورات، فساهم قسم كبير منهم في التآمر على وثيقة الوفاق الوطني، سعياً وراء مكاسب شخصية أنانية على حساب الوطن ووحدة الدولة.
وبعد خروج السوريين من لبنان، دعموا، بالتعاون مع إيران حزب الله، ما كرّس وجود دويلة ضمن دولة لبنان، وأصبحت هذه الدويلة أقوى واغنى من الدولة الشرعية بعد أن صادرت قرارها الوطني. ونشأت في لبنان نتيجة ذلك مجتمعات مختلفة التقاليد والعادات واللباس والثقافات، ما دفعني للتساؤل كيف يمكننا المحافظة على وحدة لبنان، ما دمنا مختلفين في كل شيء، من السلطة، إلى السياسة الدفاعية، إلى السياسة الخارجية، إلى الثقافات، إلى التقاليد، إلى الولاء للوطن والدولة.
لقد ثبت أننا كشعب يدّعي الثقافة والعلم، نفتقد لثقافة ممارسة المسؤولية ولواجب محاسبة من يتولى الأحكام باسمنا. فالمسؤولون هم ثمرة خياراتنا وقرارنا، وعلينا مسؤولية وطنية في انتقائهم، وعلى قرارنا يترتّب مستقبل دولتنا.
فالتحدّي الأكبر في أن يحرّر اللبنانيون أنفسهم وإراداتهم من الوصايات المذهبية والطائفية والعائلية والحزبية والمصالح الخاصة، وأن يمارسوا حقّهم في اختيار ممثليهم، كمواطنين أحرار، بوعي وترفّع وحكمة ووطنية وإدراك لأهمية دورهم في حسن سير النظام. ودعوني أتساءل معكم، عمّا إذا كان تغيير النظام كفيل بحلّ مشكلة لبنان إذا استمرت العقلية السائدة دون تغيير؟ فماذا ينفع تغيير النظام في معالجة مشكلة الإشراك في الولاء للبنان وفي حلّ مشكلة السلاح غير الشرعي وقيام دولة ضمن الدولة؟
وماذا ينفع تغيير النظام إذا بقي المسؤولون غير خاضعين للمساءلة والحساب، وإذا بقي المواطنون يجدّدون لهم البيعة رغم فسادهم وارتكاباتهم وخياناتهم.
وماذا ينفع تغيير النظام إذا بقي شعبنا منساقاً وراء مصالحه الشخصية وأسير انتماءاته الحزبية والطائفية والعائلية؟
قد لا يكون نظامنا السياسي هو الأفضل في العالم، إلا أن الأحكم عليه في ظلّ الظروف التي طُبّق فيها غير موضوعي وصحيح، فمنذ يوم إقراره في الطائف لم يسمح بتطبيقه بصدق. هناك ثغرات في النظام، يجب سدّها بتعديلات دستورية لا تمسّ الأسس والمبادىء الأساسية التي قام عليها. في المقابل، أطرح السؤال الآتي: إذا أردنا تغيير هذا النظام فبأيّ نظام سنستبدله؟ بالفيديرالية، التي تطرحها بعض الأوساط الرافضة لهيمنة حزب الله على دولتنا، والرافضة لفرض طرق حياة متناقضة مع مفهومنا للحياة؟ أو بالتقسيم أو الكونفدرالية، أو باعتماد اللاطائفية دون التحضير لها؟
أما أنا، فإنني كنت وسأبقى مؤمناً بوحدة دولة لبنان وبنظامنا السياسي القادر على استيعاب التعددية الثقافية والدينية.