الهديل

ست الحبايب

كتبت  شيخة غانم الكبيسي

من المنابع تتدفق الانهار لتشكل التيار المُحرك لانسيابية سريانها، مكونة المسطحات العذبة النقية التي تسري في شرايين الأرض لتعيد لجفافها الحياة وتروي عطش حقولها، مُتشعبة بقطراتها الندية لتغور في التكوينات الصخرية، تُغذيها العيون والينابيع الثلجية الضيقة لتنطلق في مسارها المحمي، غير مكترثة بما يصادفها، فهُناك من يمدها بالقوة ويؤمّن طريقها، أنهار لا تنضب ولا تجف متدفقة بالحنان والعطاء.

انها الأم الينبوع الذي لا يتوقف جريانه، انها المصدر الذي يزرع فينا بذور الأمن والطمأنينة، ارتبطنا بحبلها السري لنمتص معادنها ونغوص في احشائها متوسدين عظامها، في احضانها تعلمنا المشاعر وبنينا صروح مجد قلوبنا، ومن خلال عينيها استكشفنا العالم وتعلمنا طقوسه، لامست اجسادنا بحنانها وتكفلتنا بطيبة قلبها وعطائها اللامحدود ليقوى عودنا ويشتد بأسنا.

كبرنا وكبرت عليها ضغوطنا وهمومنا، لتُصبح الأذن الكبيرة لرغباتنا والبئر العميق لأسرارنا، تبنت أمنياتنا وتجرعت مخاوفنا لتحتوينا روحها الطاهرة بدعواتها المحفزة لتنير وتمهد طريقنا نحو الأفضل، تنتقص من حقوقها لنكتمل وتذبل أوراقها لنزدهر.

فالأمومة ليست مهنة تقضي بها المرأة سويعات وتنتهي، أو يمكن تغييرها بل هي أعظم هبة منحها الله للنساء ليُكرمهن ويرفع من شأنهن، فهي أم لكل مخلوقات الأرض، وهي نفحة من نفحات الجنة، ونسمة من نسمات الربيع الدائم، تعتريها مشاعر الكون نحو فلذات كبدها، لترعاهم وتُلبي احتياجاتهم الفسيولوجية للبقاء على قيد الحياة، كما انها تمدهم بجميع الاحتياجات الاجتماعية والنفسية التي توفر لهم الأمان والاستقرار الداخلي.

ان الحديث عن عطاء الأم لا ينتهي بيد ان لقواها حدا ولصبرها حدودا، فهل علينا استنزاف عمرها بالتضحيات والمسؤوليات المتراكمة، متجاهلين متطلباتها الخاصة وسلامها الداخلي في اختراق غير آمن لتفاصيلها وذاتها الملائكية.

فما قامت به تُشكر وتؤجر عليه ولا يعني ذلك ضرورة استمراريتها في مراعاتك عندما تبلغ مبلغ الراشدين لتُكبدها عناء الاهتمام بأسرتك الجديدة، فإن قبولها ورغبتها بتحمل مسؤولية اطفالك ما هو إلا سلسلة لمُهماتها معك التي اعتادت عليها اثباتاً لأهمية وجودها كي لا ينقطع عطاؤها بعد ان تلاشت اهتماماتها الذاتية، في حين إنك بالعمق ترفض الاستغناء عن حاجاتك الطفولية من تدليل ورعاية، فالحلول السهلة هي الانسب، ولم لا فهي على الدوام تعرض خدماتها متناسية سنوات عمرها التي لن تعود، لتكون أنت فقط مصدر اهتمامها الأول.

متى سيحين تخليها عن مسؤولياتك المتراكمة؟

متى ستفيق هي لوجودها البشري؟

وتستوعب بان هناك الكثير من الأمور التي فاتتها وهي تحرص وتفكر بمعرفة وتلبية متطلباتك اللامتناهية، ومما يثير الاشمئزاز مستوى وعي بعضهم الذي يؤمن بفرضية ان الأم دورها مُكرس له هو فقط، بتركيبة طمع مزدوجة تبرر له واجباتها تجاهه التي لا تنتهي، في حين الأدهى قيام فئة منهم بالوصاية على امهاتهم، فيتحكم بها ويصدر الأوامر ويفرض القيود بالنهر والتأفف لأن المجتمع اباح لذكوريته السيطرة والقوامة متناسياً احكام الشريعة التي تنص على القول الكريم والصبر الجميل.

إلا ان أكبر الخطايا وأشدها مرارة من يتجاهل أمهُ ويهجرها أو يتطاول عليها ليُرضي كبرياءه الأجوف بعد ان سحرته مغريات الحياة، فتناسى فضلها وجحد معروفها، فهؤلاء هم من تحجرت قلوبهم وقسى فؤادهم وتلاشت الحكمة من عقولهم.

انتبه.. أيُها المُتغافل، فلقد حان دورك الآن لتقوم برعايتها وتلبية احتياجاتها وتخليصها من كل مصادر التوتر والحيلولة دون رمي مهامك الحياتية عليها وكأنها شماعةٌ لنواقصك.

اجعلها أميرة عرشك المبني بأناملها، وملكةُ حصنك المنيع بصلابتها، وسلطانة فؤادك المُفعم بمشاعرها، فلا تكسرها بعد ان صلبت عودك ولا تُجازي سيولها بتجفيف العيون والينابيع، استمع لاحاديثها وشكواها بصدر رحب دون جدال، تفنن في كسب رضاها وبلوغ جنتها، اسعد قلبها العامر بالمغفرة واملأ أعماق هوة مشاعرها بالرضا وتجمل بكلماتك أمامها وتفهم حساسيتها المُفرطة وقدر احتياجاتها البسيطة، قبل ان تبتعد عنك وتعض الأصابع ندماً على فراقها فَتفقدُ دعواتها القلبية وتُحرم من طاقة الخيرات السماوية التي تتلقاها كل صباح بفضل نواياها الوردية، بادلها الدعاء وهي على سطح الأرض قبل ان تُدفن بباطنها وتُغلق أبواب النعيم من تحت أقدامها.

إنها سيدة نساء الكون التي وجودها لا يُقدر بثمن ولا يملأ فراغها أحد، إنها ست الحبايب التي رحيلها سيقصم ظهرك ويعلن نهاية شبابك، إنها أمي وأمك التي يحتفل العالم بعيدها الذي يصادف كل أيام العمر

Exit mobile version