الهديل

نسختي الجديدة ومختصرات الحياة

كتبت شيخة غانم الكبيسي

 

 

ساقتني قدماي للعديد من الطرقات الحياتية التي تجولت بها واستكشفت خباياها وعبثت بمحتوياتها غير مكترثة بعواقبها عمداً وجهلاً في آن واحد، فاليسير منها مر مرور الكرام دون تذمر أو ذكرى كالسحاب تأخذه الرياح بعيداً دون عودة، اما الطرق العسرة فلقد بقيت تلوح بوشمها على أضلعي وتستنزف طاقتي، بسبب ممراتها الضيقة التي اطبقت على انفاسي وقيدت تحركاتي لتعيق سيري بأرضيتها الوعرة حتى بات بفوهة الطريق حمم تغلي قاذفة بجمراتها الملتهبة كل الضعفاء والابرياء من حولي، لتحرق اليابس قبل الأخضر في سبيل ان يبرد جوفها وتستعيد استقرارها الباطن الذي لن تبلغه حتى يهدأ الضجيج وتكتشف الدمار الذي خلفه جلد الذات بأعماقها.

لذا قررت الاعتكاف ليتوقف الأنين وتُرمم الجراح ولينمو جناحيّ ويقويا استعداداً لانطلاقة جديدة وبداية جميلة لطريق يشع من فضاء رحابته نوراً، فلا تحط لي قدم ولا ابلغ السماء مُحلقة بين ارجائه مُنتشلة كل من يمد يده ليشاركني الطيران ويمتع ناظريه في طلعات استطلاعية لما يدور في ارجاء معمورة محطاتنا اليومية.

لأكتشف جوهر دهاليزي التي حاصرتني لسنوات واتبين انني كنت احفر بأظفاري الدامية لتعميق الفجوات التي اسعى لسدها، وأجادل لأوقد رماد جمر مُنطفئ كان علىَّ تجاهله، كما ان هرولتي للهروب ما كانت إلا نحو العدم، فنظرتي المحدودة وتجاربي القليلة فاقموا حلكة الدروب واججوا ريبة الخلاص.

بالغالب لا يفيق من يشارف على الموت إلا بصدمات كهربائية يرتفع ترددها لتبلغ العمق المُتطلب لإعادة نبض عروقه، فمنا من تكفيه صدمة خفيفة لتنعش قلبه وتزيل غشاوة عينيه ومنا من يتلذذ بالصدمات اثباتاً لصلابته إلى ان تدمره فلا يعود انعاشه ممكناً.

لذا ايقنت بان التغيير لن يحدث ما دام الوجع لم يصل ذروته، التي بدورها تتباين درجاته بين الأشخاص حسب قوته ومعدل تكراره، فمقياس تحملك الخارق قد يكون طبيعيا عند الآخرين وما هو قاس عند البعض قد يكون مُستحملاً وهيناً عندك.

فالحياة تستمر في قسوتها حتى نتعلم الدرس كيلا نكررها في نسختنا الجديدة التي نتدرج بها نحو التغيير الذي يستغرق سنوات صعودا وهبوطا لنصل للتوازن المنشود، فكلما حدث التغير بشكل تدريجي كلما كان أكثر عمقاً وثباتاً بعكس التغيرات السريعة التي قد تدعونا للتخبط وتؤدي لنفور الآخرين.

جميعنا نتغير مع مرور الأيام وانقضاء السنوات بسبب تجربة مؤلمة أو موقف جميل أو لمشاعر مزعجة ارهقتنا أو لفكرة مبدعة لاحت في السماء، وقد يكون التغير للابتعاد عن علاقات مؤذية أو من أجل أشخاص رائعين دخلوا بحياتنا، هناك العديد من المسببات التي قد تحولنا لنسخ مختلفة، ولكن هل دائماً نكون نسخا أفضل؟ أم اننا قد نفيق من الصدمات والتجارب لنتغير للأسوأ الذي لن نكتشفه إلا بصدمة أخرى.

فعملية التغيير ليست سهلة أو متوقعة خصوصا لدى الأشخاص المتورطين في ممراتهم الحياتية والعالقين في مصادرهم الطاقية، كما انه ليس هناك عمر معين للتغيير لذلك نجد الكثير ممن هم فوق الخمسين بمستوى وعيّ وإدراك مُراهق، في حين قد يكتشف شاب يافع مختصرات الحياة في وقت مبكر. ويكون ذلك من خلال معرفة المعادلة الصعبة التي لا يعرفها الجميع أو يتقبلها لعدم استساغة الوعي العام لعدد من الأسرار التي يحصل عليها المرء من جراء التعلم من الخبرات ورؤية ما خلف السطور ولا يكون ذلك سوى بالنوايا الحسنة ورفع درجة الاستحقاق الذاتي لتلتقط تلك المختصرات بتجارب فردية أو بمساعدة الآخرين والاستفادة من خبراتهم لبلوغ الطرق الميسرة لمواجهة الحياة المليئة بالتعقيدات.

ولكن من الأمور المستغربة ترحيب البعض بالتغيرات التي تطرأ عليهم في حين انهم لا يستسيغون ويتقبلون تغير الآخرين من حولهم وكأنه يحق لهم ما لا يحق لغيرهم، فينعتونهم بالغرور والانانية لأنهم لم يعودوا ينسجمون معهم، والأغرب من ذلك عندما يتوقع منك البعض ان تكون نسخة مخالفة تماماً لما كنت عليه، فلا يجوز لك ان تظهر صفات نسختك القديمة ابداً وكأنك انسلخت من جميع تجاربك وأفكارك ومعتقداتك بين ليلة وضحاها. هذه توقعاتكم ولكن الواقع العملي يؤكد أن معرفتك ببعض الاسرار لا تعني بأنك تعلم جميعها، ونسختك الجديدة ستكون القديمة لاحقاً، فكلما بعروقنا نبض تضخ قلوبنا به الدماء سنواصل التعلم والتغير للحصول على نسخ أفضل تبحث على الدوام عن مختصرات مُيسرة لتجاوز ابسط الأمور وأعقدها

Exit mobile version