يذكر كل واحد منا كيف عشنا أيام “جائحة كورونا”، عندما استيقظ العالم فجأة على خبر انتشار واسع لفيروس تسبّب في تغيير نمط الحياة في كلّ المجتمعات الإنسانيّة، قبيلَ ذلك بفترة قصيرة كنت قد حضرت افتتاح مكتبة “الأمة” في أنقرة (تركيا). وفي كلمة الافتتاح ألقى الرئيس رجب طيب أردوغان كلمة، فلفت نظري سرده لحكاية ذات مغزى، حيث إن أحد الخلفاء العباسيين بعث لاستقدام أحد العلماء الكبار ليجاوره فذهب إليه الرسول ليطلب منه الحضور إلى الخليفة حالًا فوجد العالِم في مكتبته وعندما أبلغه برغبة الخليفة، قال له إني في جلسة حوار لا أستطيع قطعها وسآتيه غدا، وفي الغد ذهب العالِم إلى الخليفة، فسأله مع من كنت بالأمس قال: كنت مع الكتب.
تلك القصّة الرمزيّة تسرّبت إلى حياتنا تحت وطأة الجائحة، وقد قدرت وقتها أن العالم سيتغير دون أن يطيح بمكانة الكتاب. وفعلاً ازدادت وتيرة انتقالنا إلى العصر الرقمي دونَ أن نتخلّى عن المعرفة، ومرت تجربة الحياة تحت وطأة “التباعد الاجتماعي” بإحلال تقارب من نوع جديد وبوسائط جديدة، فقد هيمن البعد التكنولوجي وارتفع نسق الاتصال والتواصل، وبدا السؤال عن منزلة الكتاب والمكتبات ملحّا لدى المثقفين والكتّاب والقرّاء، ولدى الجهات المعنيّة بمصير الكتاب والمكتبات. كنت أسأل نفسي: ما مصيرُ المكتبات في العصر الرّقمي؟
وكان لسؤالي وقع مضاعف لأنّني لم أكن كاتبا وقارئا فحسب وإنّما رئيسًا لمكتبة قطر الوطنية، مما حمّلني مسؤوليّة أكبر في تناول هذا السؤال وتقليبه والتفكير في أهمية تطوير المكتبات حتى لا يلعب هذا العصر الرقمي بوسائله المتعددة دور القضاء على المكتبات، وحتى لا نعيش زمن هدم المكتبات بطريقة حديثة.
استمرار مجتمع المعرفة
صمدت المكتبات في تاريخ الإنسانيّة رغم الهدم والحرق. ولا يعقل أن تنحني لعاصفة العصر الرقمي. فقد عرف تاريخ الكتاب مراحل تاريخية مختلفة في وسائل التواصل، ولكننا نشهد اليوم حلول أشكال جديدة لتواصلنا مع الكتاب.
ولنُدقّق الأمر أكثر، فقد كانت المرحلة الأولى التي عاشتها الإنسانيّة تشهد على امتداد 4 آلاف سنة قبل الميلاد كيف تعلّم الإنسان الكتابة، وكيف بدأ مع اختراع الكتابة في استخدام لفافات الورق ومخطوطات البردي لحفظ المعلومات والمعاملات والفنون وتعبيره عن رؤيته للحياة والمعتقدات.
وبعدها أصبح المخطوط شائعا فسهّل عمليات التواصل، وعد اهتداء الإنسان لفن المخطوط ثورة ثقافيّة في تلك العهود سمحت له بتملّك “الوثيقة” وتصفّحها والتعليق عليها في هوامشها.
لكنّ مرحلة اختراع الطباعة نحو عام 1450م مكّن الإنسان من الدّخول في عالم التواصل الواسع النطاق، فبعد أن كان استنساخ النّصوص من اختصاص النّساخ صار من مهام المطبعة التي وسّعت مجالات تداول المعرفة ونقلت الكتاب من زمن المخطوط إلى زمن المطبوع.
ولا شكّ فإنّ المكتبات التي كانت في السابق تعتمد على المخطوطات وتستعين بصناعة الورّاقين تطوّرت خدماتها بتطوّر صناعة الكتاب. وها نحن اليوم نعيش زمن “النصّ الإلكتروني”، وهي ثورة أخرى في تاريخ الكتاب والتواصل، والمتأمّل في وتيرة تطوّر هذا التاريخ، سيندهش لتلك النقلات المتسارعة التي وفّرتها التكنولوجيا للإنسانيّة، فبينما استغرقت مدّة استخدام الإنسان للكتابة على اللفافة قرابة 4300 سنة، فإنّ استخدام المخطوط بحروف متنقلة دام قرابة 524 سنة، وتطلب الانتقال من الكتاب المطبوع إلى الإنترنت بمحرّكات البحث قرابة 17 سنة لتستغرق مدّة إنجاز محرّكات البحث مع الترتيب عبر غوغل حوالي 7 سنوات.
ومن الصّائب الاعتراف أنّنا نعيش على وقع تغيير في تعاملنا مع الكتاب والقراءة على السّواء، إذ يُعدّ دخول الكتاب الورقي إلى عالمنا ميلادًا لفترة جديدة في تاريخ الإنسان. لم تعد القراءة مقتصرة على الكتاب المطبوع، بل إنّ جيلاً كاملاً نشأ بين الصّفحات الافتراضيّة لمحرّكات البحث، وهو لم يعد يستخدم نفس الطرق التي كنا نقرأ بها ونتعامل بها مع الكتاب.
إنّه جيل تنوّع طرق القراءة، فالشاشة غير الورقة، وهو قادر في وقت وجيز على تصفح كتب مختلفة في وقت واحد والاكتفاء بنبذات من هنا وهناك. ولا يعني ذلك أنّنا نتحسّر على زمن ما قبل الرقمي فلم يتحسّر أبناء زمن المطبعة على زمن المخطوط، ولم تلغ المطبعة تاريخ الكتاب بل طورته، وكذلك موقفنا من العصر الرقمي. وما الحديث عن أزمة القراءة والكتاب بدعوى هيمنة الرقمي على حياتنا إلاّ حكم يحتاج إلى تروّ، فقد عصفت أزمة القراءة بأوروبا مثلا قبل أن يحلّ العصر الرقمي، وقد سبق تراجع قراءة الكتب في فرنسا زمن هيمنة الرقمي على عمليات النشر وتداول الكتاب.
إنّنا مجبرون لفهم طبيعة العصر الرقمي ومتطلّباته لكي نستثمر وسائله. لقد حلّ الرقمي في مختلف المجالات، ومن المهمّ التّصريح بذلك حتّى لا يُعتقد أنّ مجال الكتاب والمكتبات مهدّد بشكل متعمّد من هذه الوسائل الجديدة. وقد انتقلت الإدارة في أغلب بلدان العالم من الإدارة الورقيّة إلى الرقميّة، وأصبح لزاما على كلّ بلد تطوير خدماته باستخدام التكنولوجيا، لذلك فإنّ الدول التي تعيش ما اصطلح على تسميته “الفجوة الرقميّة” تظلّ متأخرّة قياسا بدول أخرى تمتلك وسائل الرقمنة.
ولا يعني الانخراط في العصر الرقمي إعلانا عن “نهاية المكتبات”، فالمكتبات مثل الإنسان تماما فهي على سبيل المجاز “مدنيّة بطبعها” وهي تتأقلم مع المتغيرات التي تحيط بها، وإذا كان “العصر الرقمي” في ظاهره عصر الوسائل والتقنيات فإنه في جوهره عصر معرفي، وما المجتمع الذي يدعو إليه سوى “مجتمع المعرفة”. ولكن هذا الموقف يتطلّب في الآن نفسه مجهودًات كبيرة لأجل “الإبقاء” على المكتبات بل وجعلها تنمو وتعمل بوظائفها المعلومة، وإذا كنا اليوم قادرين على الدخول إلى أيّة مكتبة في العالم للاطلاع على محتوياتها والاستفادة من خدماتها فذلك من فضائل العصر الرقمي، ولا يعني أنّ فضاء شاشات الحواسيب سيعتقل القرّاء ليمنعهم من الذّهاب إلى المكتبات واستعارة الكتب منها والمكوث بين أروقتها.
تقوم المكتبات بالتكيّف مع متطلبات العصر، وما يطلبه جمهور القرّاء أيضا، لذلك سارع المهنيّون في المجال إلى دمج وسائل جديدة في المكتبات مثل الشّاشات والألواح الرقميّة في القاعات، ويعني ذلك أنّ إدارة المكتبات ستختلف عمّا كانت عليه، وقد برهن العرب في تاريخنا الثقافي على قدرتهم في اصطناع وسائل جديدة في إدارة المكتبات منذ القديم، فلم يكن لديهم إنشاء المكتبات وليد هاجس حفظ المعارف بقدر ما اهتمّ العرب بـ “إدارة” رصيد مكتباتهم فتوصّلوا قبل غيرهم من الأمم إلى علم إدارة المكتبات، وتصنيف المؤلفات تصنيفاً موسوعياً، ونذكر من أشهر “خزاني المكتبات” سهل بن هارون وابن مسكويه وأبو سيف الإسفراييني. ولذلك فإنّ تطوير المكتبات في هذا العصر ليس مجرّد حاجة وإنّما هو استمرار لمجتمع المعرفة الذي تحافظ فيه المكتبة على مكانتها.
الرقمنة خيار إستراتيجي
لشدّ ما أعجبني قول جيمس برايدل “لا تعني التقانة مجرّد صناعة أو استخدام أداة ما، بل هي صياغة الاستعارات”، فقد اهتدى إلى أنّ الغاية الرئيسيّة في هذا العصر الرقمي لا ترتكز على تملّك أدوات التقنية، بل ترتكز على تلك المفاهيم الجديدة التي نمتلكها لتطويع تلك الأدوات وليس لتوثينها، فيصبح الأمر نوعا من الانقياد الطوعي لـ “الوسيط”، فنغترب فيه وننسى أنّه من صنعنا ولسنا من صُنعه.
وعندما حللت رئيسا على مكتبة قطر الوطنيّة فكّرتُ طويلاً في كيفيّة استثمار هذه الوسائل الجديدة لخدمة مضامين الهويّة الوطنيّة وقيم التعارف الإنساني، وعملتُ على أن توظّف هذه الوسائل في المحافظة على التراث الثقافي لدولة قطر والخليج العربي والتراث الإنساني. ولعلَّ من أبرز أدوار المكتبات الوطنية في العالم بشكل عام القيام بهذا العمل الجليل منْ حفظ للتراث الفكري الإنساني، وذلك هو دور من الأدوار الأساسيّة التي تقوم بها مكتبة قطر الوطنيّة.
لقد تعلَّمنا أنّ التَّجارب والخبرات التي عرفتها الحضارات استطاعت أن تُراكم معارف ومهارات لا غنى للإنسان عنها في أيّ زمان ومكانٍ لأنّها نواة هذا التطوّر الذي نعيشهُ، وإننا نرى هذا التراكم فيما تركته الأجيال من وسائط مدوّنة أو شفاهيّة، وتناقلتها الأمم، وسارعت إلى حفظها من الزوال حتّى تظلَّ محفورة في ذاكرة الأجيالِ وفاعلة في حاضرها متى دعت الحاجة إليها. وقد تحوّلت هذه الوسائط إلى مصادر للمعرفة يستفيد منها الجميع، ولكنّ هذه الوسائط تحتاج على مرّ السنوات إلى حفظ وصون، وقد أتاحت الوسائط الرقميّة فرصة لهذا الحلم.
وتُعدُّ مكتبة قطر الوطنيّة قلعة من قلاع التراث الثقافي بفضل ما تزخر به المكتبة التراثية بها من مخطوطات وخرائط نادرة توفّر للمستفيدين معرفة تراثيّة واسعة بالتاريخ القطري خاصّة، وإن كان معمار مكتبة قطر الوطنيّة حديثًا في طابعه الهندسي فإنّها تولي التراث الثقافي مكانته المتميّزة واللائقة به. وقد تجاوزت المكتبة الدور التقليدي في المحافظة على التراث من خلال تبنيها للأساليب التكنولوجيّة المتقدّمة، ولم تعد تكتفي في أعمالها بتنمية مجموعاتها الوثائقية بحسب حاجيات المستفيدين فقط، بل سارعت إلى حصر الإنتاج الفكري الوطني وتجميعه وتنظيمه والاهتمام بالتراث الثقافي القطري حتّى تكون المكتبة عنصرا فاعلا في بناء الهوية الوطنيّة.