كتبت شيخة غانم الكبيسي
نقتطف ثمرة أعمارنا لنتذوق طعمها الذي قد يكون سائغاً عند البعض وعلقماً لدى آخرين، بعد مضي معظم أيام العمر الزاهية، لتطوف بنا الأيام ونحن نتقمص أدواراً قد لا تناسبنا، متوشحين أثواباً غريبة لنبدو كما خُيل إلينا في أجمل حال، نلهث خلف الكمال والمال، لملء خزائن عواطفنا شبه الفارغة، متفحصين لكل التفاصيل الصغيرة التي تثير فينا قلقا غير مبرر، متشككين مرعوبين من خفايا العمر، فبعد أن تلذذنا بفاكهة الربيع التي لم يأت وردها مُطيعاً بسبب حرارة الصيف الحارقة باغت أزيز الخريف أوراقنا الصفراء لتتساقط متشبثة بالأرض، إلى أن يجرفها مطر شتائنا ويسحقها زمهريره.
كم هي سريعةٌ في إبادتنا هذه الفصول عندما نستسلم لطقوسها وتجبرنا على أن نحنو لقيظ صيفها في عز شتائنا ونطمع في ربيعها ونحن على مشارف الخريف، لتتوالى سنواتنا نقصاناً بدل أن تضيف لنا عمراً.
أليس بالإضافة حسابياً وعملياً نكتمل؟
أم أن هناك حسابات أخرى نجهلها تسوقنا فيها أيامنا وليالينا لحتميات مُتطابقة؟، لنسير نحو التناقص لا الزيادة بإرادتنا، رغم تيقننا بأن اللحظة التي سنفقدها لن تتكرر، ولا يمكن تعويضها، إلا أن اختياراتنا هي التي توجهنا وتحدد مصائرنا محتكمين فيها لعقولنا تارة ولأفئدتنا تارة أخرى، فنميل فيها للإيجابية والأمل لتسيير عبورنا الخط الزمني ويميل غيرنا للتشاؤم والسواد لتضمحل فرصه وتنقطع خطوطه.
لذا فمن تسلح بالتفاؤل ليعيش العمر ربيعاً دائماً يزهو بأزهاره، متقناً لفن الحياة، بارعاً في تنسيقها لتتناسب مع مرحلته العمرية، منتقلاً بين بساتينها النظرة مستمتعاً بمنظرها الخلاب الذي يسحر فؤادهُ كُلما نبتت شجرة وتفرع لها غصن، متجدداً مجتهداً لا يمل ولا يكل، يزداد تألقاً وجمالاً وإبداعاً كلما زاد عمره رقماً، ليبلغ التوازن النفسي بفطنته ونقاء قلبه المملوء باليقين في خيرة كل الأقدار، هو من تلذذ بمواسمها وفاز بقواسمها.
بعكس من يضيع في دوامة الممكن واللا ممكن فيفقد وسائل التحكم لتضيع بوصلته وهو محاصر بالسلبية، لا يكف تذمراً من قساوة ظروفه الملتهبة وتعقيدات مراحله المتشابكة ليغرق بحرارة جفاف صيفه القاحل فلا يرى سوى سراب يلهث وراءه، باحثاً عن مشاكل الآخرين دون أن يجد علاجاً لعقدته الدفينة تحت ركام قسوة أيامه ولياليها المظلمة، محترقاً بنهاره الطويل ليذبل سريعاً بعد أن فقد شغف الحياة.
أما من تعثر في غياهب الخريف فقد جفت إمداداته وتصلبت قواه، وتجردت غصونه كأعجاز نخل خاوية، فلا يملك سوى حسرات تنهش فؤاده على ربيعٌ مضى، تستشفها من سرد أمجاده وتشبثه بزمن مسروق.
في حين أن هناك الكثير ممن يعشق المواسم الخريفية ويترقب تساقط أوراقها لتضفي عليه جمالاً راقيا، منتشياً باللون الرمادي الذي يتسلل خصلاته، ليفوح بعبق التاريخ إجلالاً وتوهجاً، فلا تقلقه تجاعيد زاحفة ولا يحارب الأزمان المُجحفة، بل يرتشف الواقع بتلذذ غير معهود، مُقدراً لكل قيمة زمنية تنقضي، مستقلاً لكل فرصة تنجلي لتدفعه للتفكر والإدراك، لتشمله همة الحماس متوجة بالإبداع والتميز، حتى يهزه هواء يُنبئ ببرودة قادمة، يشرع لها أبوابه ويسمح لها بالمرور لتلفح نسماتها وجهه الباسم.
ليبلغ موسم الشتاء، فيكتشف انه ودع اخضرار الحياة وربيع الدنيا الذي ولى منذ زمن بعيد، وافتقد حرارة الخيبات التي كانت تُبقية متصلاً بالآخرين، واشتاق لهدوء الخريف المُتميز بألوان الوقار والحكمة، فلا مناص الآن من استقبال الصواعق الثلجية، ليتجمد في صقيع الوحدة، بعد أن توقف الإنتاج والعطاء وانشغل من بقي حياً من الأصدقاء بتيبس مفاصله ووهط قلبه، فضاعت الذكرى بالخرف، لتنتهي حقبته الزمنية.
إذا فالأمر بيدك لاختيار الأفضل والذي تراه مناسباً، بحسب درجة التوازن التي ستتبعها في الاحتكام للعقل والمنطق الذي يكون عمادا لمعظم قراراتنا، دون أن تغفل استخدام العاطفة الوسيلة المحركة والمسيطرة لجميع تلك القرارات والتي يستخدمها الجميع ويبررونها بالحقائق، فنسبة التوازن والتحكم في التفكير والمشاعر جديرة بأن تغير حياتك إذا اقترنت بالتفاؤل.
لذا فمن يحتكم للعقل فقط ويقيس العمر بالسنوات فلقد طمس مشاعره لتتبلد أحاسيسه وتتجمد رغباته، ومن استند لعواطفه قاس عمره بالمستوى الروحي ليتراوح بين الطفولة والشباب والنضج والشيخوخة مستسلماً لفصوله القهرية، في حين من يتزن بينهما ويميل للتفاؤل وحسن النوايا يتوقف الزمن عنده فلا يعترف بالأرقام لتسمو روحه وتسعد حياته ويتصالح مع ذاته، أما من يجنح للتشاؤم فيشيخ معه العمر وإن كان بربيعه