خاص الهديل
..
من بين انشغالات المنطقة بتطورات التسويات الكبرى التي هناك توقع بأن يؤدي مسارها إلى إطفاء حرائق المنطقة، بدا مفاجئاً حدث استعار حريق السودان الداخلي بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان من جهة وقوات الدعم السريع بقيادة حميداتي من جهة ثانية.
والواقع أن الحدث السوداني شكل مفاجأة رغم ان سوء العلاقة بين الجيش وقوات الدعم السريع موجودة منذ فترة غير قصيرة.. ومصدر المفاجأة هنا يكمن في توقيت نشوب الحريق السوداني الذي حصل في لحظة تتجه فيها دول الشرق الأوسط المؤثرة لاطلاق مبادرات متداخلة ومتقاطعة بالمعنى الإيجابي، تهدف جميعها لإطفاء الحرائق الملتهبة في المنطقة، سواء في اليمن أو في سورية وصولاً إلى لبنان.
والواقع أن الحدث السوداني الملتهب حالياً، يعبر عن عدة حقائق استراتيحية بغض النظر عن كم التفاصيل الكبير التي يشتمل عليها..
أول هذه الحقائق هو الفشل المدوي الذي أصاب التجربة التي برزت بعد سقوط نظام عمر البشير، وهي التجربة التي سميت حينها بالنموذج السوداني القائم على فكرة إيجاد شراكة بين المجتمع المدني صاحب المصلحة بالتغيير الديموقراطي، وبين المؤسسة العسكرية المؤتمنة على وحدة البلد وحماية التعبير السلمي وصون الدستور، وذلك من أجل تأمين عملية انتقال السلطة من منظومة الفساد إلى قوى سياسية جديدة..
والواقع أنه خلال بدايات مشوار الشراكة المدنية – العسكرية في السودان، بدا أن التجربة قابلة للنجاح، لولا أن مؤسسة الجيش بذراعيها الشرعي الذي يقوده البرهان، والرديف له الذي يقوده حميداتي، قررت الانقلاب على الشريك المدني، لمصلحة سيطرته على الحكم وقطع مسار العملية السياسية الديموقراطية الهادفة لتسليم الحكم في السودان للمدنيبن.
وطوال فترة معينة كان هناك رهان في المنطقة على أهمية النموذج السوداني التي يعطي أفقاً سلمياً تغييرياً للثورات العربية؛ وأيضاً يعطي لجيوش المنطقة دوراً ديموقراطياً، وليس عسكرياً فاشياً، في صناعة التغيير، ولكن هذه المرة، ووفق النموذج الجديد، المقصود هنا هو التغيير الديموقراطي السلمي وليس الانقلابي.
إن كلاً من البرهان وحميداتي في أكتوبر ٢٠٢١ انقلبا معاً على الثورة المدنية، وعلى شريك الجيش في العملية السياسية للتغيير، أي المدنيين.. ومن جديد وضعت هذه التطورات السودان في حالة مواجهة بين سارقي الثورة العسكريين وبين القوى المدنية التي أسقطت البشير وذهبت لتطرح على الجيش صيغة شراكة تهدف لتأمين العملية الانتقالية، على أن يكون الحكم في السودان مدنياً وليس عسكرياً كما كان على أيام جعفر النميري ومن بعده عمر البشير.
لقد أفشل البرهان وحميداتي تجربة نموذج السودان، وأكثر من ذلك فإن اتفاقهما غير المقدس على إقصاء الشريك المدني من العملية السياسية السودانية، واحتكارهما قرار السلطة في السودان، انتهى الآن بكارثة حلت عليهما، وتمثلت باندلاع النار بينهما على خلفية أي منهما يجب أن تكون له السلطة لوحده.
إن ما حدث وما يحدث اليوم في السودان، يذكر المواطن العربي بأحداث الستينات من القرن الماضي، حيث كانت جيوش الدول العربية تشهد هجمات انقلابية بين أجنحتها الداخلية المتصارعة… وما يحدث اليوم، هو في جزء كبير منه، يمثل صراعاً مفتوحاً بين القائد العام عبد الفتاح البرهان من جهة، ونائبه حميداتي من جهة ثانية؛ وإليهما توجد مجموعات أو اجنحة داخل الجيش مشكّلة من ضباط منخرطين في الصراع، وهؤلاء يقال أنهم هم من يحرضون البرهان على المضي في الحل العسكري مع قوة الدعم السريع، أبرز هؤلاء الضباط هم محسوبون على جماعة الإسلاميين الذين كانوا مع البشير، واليوم اعادهم البرهان إلى الجيش حتى يحفظ توازن القوى العسكري فوق أرض السودان لصالحه.
وثاني هذه الحقائق تتصل بأن حرب السودان الداخلية هي مدفع يطلق النار من عدة فوهات: أولاً هناك الفوهة الإقليمية، التي لها هدف إشغال دول عربية وأفريقية كبرة مجاورة للسودان، بالحريق السوداني.. والفوهة الثاني قد تملأ إسرائيل التي يوجد لها علاقات جيدة مع طرفي الصراع السوداني؛ أي مع البرهان وحميداني.
والرسالة الثالثة هي أنه بعد بدء تسوية أزمة اليمن يتم نقل الحريق إلى بلد آخر له حدود مع أفريقيا ومع العرب ومع ممرات عالمية بحرية.. وهنا يجب التذكير بأن واشنطن منزعجة من علاقات البرهان وحميداتي بروسيا..