خاص الهديل:
هناك دائماً في العالم الثالث مصطلح يسمى “السيناريو الطارئ” الذي يؤشر حصوله من خارج سياق التوجهات، إلى حقيقة أن الرياح السياسية في العالم الثالث لا تجري دائماً حسبما تشتهي سفن دولها المحملة بأهدافها المصلحية.
ويمكن اليوم إطلاق تسمية “السيناريو الطارئ” على الحدث السوداني الذي انفجر فجأة ليخطف أضواء المنطقة والعالم التي كانت مسلطة منذ نهايات الأسبوع الماضي على بدء ظهور ثمار نتائج الاتفاق السعودي الإيراني فوق ساحات أزمات المنطقة.
..طبعاً هذه السطور لا تتبنى لنظرية المؤامرة، ذلك أن الحدث السوداني كان له مقدماته الداخلية منذ أشهر وربما أكثر؛ ولكن توقيت تفجير الوضع السوداني يترك أسئلة عما إذا كانت هناك جهات تريد تذكير دول الشرق الأوسط بأن عليها ان لا تنسى أنها منطقة رمال متحركة، وأن قرار السلم والحرب والاستقرار فيها، هو وليد صناعة رؤية الخارج لكيفية استقرار الداخل في الشرق الأوسط؛ بمعنى أن الشرق الأوسط لا يستطيع أن يختار نوع الاستقرار الذي يريده بل عليه انتظار أن يحدد له الخارج مقومات هذا الاستقرار، وعناوينه وتحالفاته.
والواقع أن أخطر ما في الحدث السوداني ليس خلاف البرهان مع حميدتي وصراخ الأجنحة العسكرية هناك، بل الخطر يكمن في الرسائل التي سيستنتجها المؤثرون الاقليميون من انفجار القنبلة السودانية..
وفي هذا المجال لا بد من النظر للحدث السوداني ببعديه العربي والأفريقي؛ وفيما يخص بعده العربي؛ فإن الإنفجار السوداني جاء في يوم عقد دول مجلس الخليج العربي جلسة لنقاش الأمن العربي من بوابة إعادة سورية إلى الجامعة العربية، ولنقاش احتمالات دعوة دمشق للقمة العربية التي ستعقد الشهر المقبل في السعودية.
ويبدو واضحاً أن العرب يعتزمون في هذه اللحظة لأسباب تتعلق باستراتيجية “تصفير المشاكل البينية” التعاطي مع ملف سورية، على أنه ملف عربي؛ وبالتالي فإن الحل لهذه الأزمة لا بد أن يكون عربياً؛ وأن وقت هذا الحل أزف موعده اليوم، لأنه ينسجم مع توجه الدول الكبيرة والمؤثرة في الأقليم لحل كل الأزمات الموجودة في المنطقة عبر الحوار، وعبر وقف الحروب الداخلية التي تشهدها بعض بلدانها..
ومن حيث المنطق يبدو وكأن توقيت إنفجار الأزمة السودانية، جاء في جانب منه ليقول أن الرغبة العربية بنقل المنطقة من حالة الأزمات الكبرى إلى حالة الاستقرار الكبير، يواجه تحديات تبدو بالشكل أنها ناتجة من تعقيدات جارية في أحد بلدان قوس أزمات المنطقة (السودان)، ولكنها بالجوهر هي أزمة داخلية نفخت بها رياح خارجية..
..ويجدر في هذا المجال ذكر أمرين اثنين لهما أهمية خاصة:
الأمر الأول هو أن السودان قبل نحو أربع سنوات كان يتم الإشارة اليه على أنه سيكون نموذجاً يحتذى به من قبل دول الربيع العربي، لجهة كيفية المشاركة بين التيار المدني وبين العسكر (الجيش) للدفع إلى الأمام بالعملية السلمية الخاصة بنقل السلطة إلى القوى المدنية التغيرية.. ولكن اليوم يتم النظر إلى السودان بوصفه النموذج الذي تؤشر أحداثه العسكرية المتفجرة إلى إمكانية أن تحذو حذوه في الانزلاق لحروب داخلية، الدول المنتمية إلى نادي الربيع العربي، والتي ينصب الآن الجهد العربي على حل أزماتها عبر الحوار، كحال اليمن وسورية، الخ…
الأمر الثاني هو أنه بمثلما أن اوكرانيا هي سلة غذاء اوروبا، فإن السودان هو مرشح لأن يكون سلة غذاء العالم العربي لو ساد به الإستقرار .. ولكن اليوم يمثل السودان في محيطه الأفريقي والعربي نفس المعنى المتوتر الذي تشكله أوكرانيا لمحيطها الأوروبي والاوراسي، حيث كل منهما تتجمع في سمائهما سحب المجاعة وانتقال عدوى الحروب منهما إلى جوارهما.
خلاصة القول في هذا المجال أن السودان بما يمثل في موقعه الجيوسياسي والديموغرافي والاقتصادي، يعتبر بلداً لا تسمح مقوماته وموقعه أن تجري فيه سياسات الصدفة، بل أن أحداثه منقادة من سياسات التوجهات الدولية والإقليمية البعيدة المدى في أهدافها وخلفياتها…