خاص الهديل:
أمس “اكتشف” رئيس حكومة تصريف الأعمال الرئيس نجيب ميقاتي أن هناك مافيات تهرّب النازحين السوريين عبر البقاع وعكار وذلك مقابل مبالغ مالية كبيرة..
والخبر الوحيد داخل ما قاله ميقاتي أمس؛ هو أنه تقصد (أي ميقاتي) أن يسرب كلامه هذا الذي قاله في مجلس الوزراء، للإعلام، حتى يثبت للناس أنه لا يزال لديه شيء يقوله.. وأنه لا يزال فعلاً “يتكلم” و”يصرح” و”يستقبل” و”يودع” و”يدلي برأي” رئاسي حر وسيادي، وأنه أيضاً – وهذا هو المهم – ليس فقط مجرد مستمع بلا فاعلية لرأي محدثيه على وزن الرئيس نبيه بري مثلاً، حيث يتلقى الأفكار التي تنزل عليه بالمظلة السياسية والاملائية…
.. ولكن الخبر الأهم داخل كل مطالعة ميقاتي الحكومية المسربة للإعلام أمس، هو أنه – أي ميقاتي – كالعادة لم يكن موفقاً، وبدا خفيفاً للغاية وهو يقوم على نحو مستهجن بتقديم مقاربة بوليسية خفيفة الحبكة، لملف يشكل امتياز مشكلة لها أبعادها السياسية والداخلية والدولية، ويترتب عليها تبعات وخلفيات وأخطار، هي بالطبع أعمق بكثير من تلك التي لخصها ميقاتي؛ واعتبر أنها ذات صلة بقصة مافيا تهرب نازحين عبر عكار والبقاع مقابل حفنة من المال..
لا يختلف اثنان في لبنان أو حتى في الصين وجزر القمر، على أن “أرسين لوبين” هو شخصية بوليسية تثير الخيال وتضيء جماليات الحبكة البوليسية؛ غير أن تقمص ميقاتي أمس لأسلوب “أرسين لوبين” في معالجة قضية بحجم موضوع النازحين السوريين، هو قصة أخرى؛ وهو أمر يهبط لدرك يتجاوز مستوى الخفة؛ وهو أيضاً يمثل دليلاً جديداً وإضافياً ومتكرراً على أن الرجل غير المناسب يجلس فعلياً على كرسي غياب الموقع الرئاسي الثالث، وغياب الدور الوطني الجدي للطائفة السنية، من السرايا الكبير.
والمشكلة مع ميقاتي لم تعد فقط أنه نموذج ليس له فرع آخر، عن اختصاصه بأنه “رئيس لحكومة تبديد الوقت الثمين”، وأنه مختص ليس له نسخة أخرى، بأخذ البلد من يده نحو قاع الانهيار؛ بل هناك أيضاً مع ميقاتي مشكلة صارت أكثر إلحاحاً لجهة أن وجوده في موقع الرئاسة الثالث صار على حساب تآكل روح الدور الوطني السني المبادر والمسؤول داخل الحكم، وداخل عملية ملاقاة الحلول على مستوى المنطقة، بدل أن يصبح كل دور رئيس الحكومة هو تشريع إجراءات اللاحل، وتحويل دولة الرئيس الثالث إلى “أرسين لوبين” الذي يلعب بأسلوب كوميدي بطولة مسلسل “البحث عن الهرة السوداء في الغرفة المظلمة”!!.
وبمثلما أن هناك حاجة لممارسة صمت انتخابي خلال فترة الأيام الأخيرة قبل فتح صناديق الاقتراع؛ فإنه بات مطلوباً فرض الصمت السياسي على نجيب ميقاتي خلال فترة التعامل مع كيفية تقليل الاضرار خلال فترة وجوده في السرايا الكبير، وذلك بصفته بديل عن ضائع، أو كحارس للموقع الرئاسي الثالث، ولكنه يتمنطق بمسدس يطلق النار على قدم حامله..
أفضل طريقة في ظل استمرار الفراغ السياسي على مستوى التعبير عن الطائفة السنية داخل موقع حكم البلد؛ هو اعتصام ميقاتي بالصمت حيث بذلك يمارس الوهم البناء، وليس الغموض البناء. بمعنى أن ينتقل من تمثيل دور أرسين لوبين إلى تمثيل دور أن مذياع الاحتفالات الحكومية طرأ عليه عطل فني حرم جمهور “ما يطلبه المستمعون” من سماع أغانيهم الميقاتية المفضلة..
والواقع أنه بالنسبة لجمهور وطني محبط كحال الطائفة السنية الكريمة؛ فإنه من الأفضل لهم أن يروا صورة ساكن السرايا الكبير بموجب عقد إيجار مؤقت وغير مدفوع البدل؛ وهو يمارس الصمت على أن يمارس سياسة أرسين لوبين مع قضية ملف النازحين كما حصل أمس في حديثه داخل مجلس الوزراء؛ أو على أن يتقمص صدى صوت محدثه حينما يتكلم، كما كان حصل قبل فترة خلال لقائه المسرب بالصوت والصورة مع الرئيس بري الفصيح والناطق بالكلمة التي تزن مكانها رطلاً..
يقول المثل “ان تشعل شمعة خير من أن تلعن العتمة”؛ وربما يجدر الأخذ بتطبيقات هذا المثل حتى يصبح الوقت اللبناني، وبضمنه بخاصة وقت السنة، أقل مرارة..
.. وضوء الشمعة المقصود هنا في غمرة “عهد العتمة الميقاتية”، هو ذكريات الزمن السياسي السني الجميل التي فيها صفحات مشرقة لرجال صنعوا للحدث بدايات ونهايات وكانت قاماتهم الواضحة تسبق ظلهم، وليس العكس: من رفيق الحريري الذي بنى للبنان طريقاً واسعاً نحو المستقبل وجعل للسنة نقاط انطلاق نحو الأمل وليس نقطة واحدة.. ثم سعد الحريري المستمر بفعل أنه تقمص إرادة الناس وليس صدى محدثيه.. ورياض الصلح الذي وقف على شرفة اعلان استقلال لبنان.. وتقي الدين الصلح الذي بنى خطاب الحكم في السرايا الكبير وليس خطاب تبديد الوقت.. ورشيد كرامي الذي أخذ بيد طرابلس إلى معرضها وليس إلى فقرها المدقع وجثث أطفالها المرمية عند شواطئ المتوسط..
..اعتزل فوق أنك صدى لمهمتهم بخصوص تصريف الوقت.. فالفراغ في السرايا الكبير أقله بالنسبة للسنة ولطرابلس هو أفضل من صورة “أرسين لوبين” وهو يتحرى عن الهرة السوداء داخل الغرفة المظلمة..