الهديل

شيخة غانم الكبيسي: فن الحياة

شيخة غانم الكبيسي

فن الحياة

نؤمن جميعاً بحقيقة الفناء، وواقع أن لا أبدية مُطلقة على كوكب الأرض، الأيام التي تذهب لن تعود، ولا يمكن ضمان بقاء اللحظة التي لابد لها ان تنتهي، فقيمة حياتك تأتي من عدم قدرتك على عيشها مرة أخرى، فهي تجربة لن تتكرر وفرصة لن تُمنح غيرها، كم هي ثمينة هذه الحياة بلحظاتها السريعة، نتنفس صباحها يومياً لملء رئتينا بذرات هوائها متخللاً الشُعب مُتسللاً للأوردة، مختلطاً بشُعيراتنا الدموية، مُتشعباً في خلايا جميع اعضائنا، ليبقيها رطبة تنبض بالحياة.

نتذوق جمالها وندرة أوقاتها التي تخطف الابصار بوميضها الوهاج، فنهيم بنعيمها وننغمس بأدق تفاصيلها، ممتنين لعطائها اللامحدود، متقبلين لاختلافات الآخرين، متعايشين مع ارزاقنا، متصالحين مع ذواتنا، لا ترهقنا غيرة ولا يؤرقنا حسد، نعرف حدودنا ونُحسن نوايانا، نتشارك مع الآخرين أفراحهم ونواسيهم بأصعب أوقاتهم، لا نفرط باستحقاقاتنا ولا نهضم حقوق غيرنا.

إلا أن هناك أُناسا لا يتقنون هذا الفن ولا يقدرونه، انغمسوا في الألم واعتادوا الجراح، عنوانهم الانكسار ونواياهم تشاؤمية، تنازلوا عن حقوقهم فضاعت واجباتهم، تعابيرهم تنم عن الكراهية ونظراتهم تفضح سوء نواياهم، لاهثين خلف الماديات والمناصب، ليتفاضل بعضهم على الآخر، مُلصقاً سواد تجاربه وحصيلة غضبه على الضعفاء من حوله، منغمساً بحيثيات المواقف ومحللاً لدوافع الاخرين وغاياتهم.

 

الحياة أقصر من أن نُضيعها في تسجيل الأخطاء ونشر روح العداء، فلحظات العمر الثمينة وهبنا إياها لنشر المحبة وليس الكراهية، للمضي قُدماً نحو الأهداف العظيمة دون ضياع ما لا يمكن استعادته، فبعض الخسارات يُمكن ان تُعوض إلا الزمن لا يُمكن استرجاعه، لذا لا تستبدل ما هو غالٍ وثمين بما هو أقل شأناً منه.فتغدو ذئباً ثائراً بوجه كل من يخالفك، لتجلده بسوط لسانك دون رأفة، ظناً منك بأنك أفضل حالاً، وأصوب رأياً، وأرجح عقلاً، ولو أنك تركت العالم من حولك وفكرت قليلاً بمشكلاتك وصدماتك التي أوصلتك لهذا الحال لكنت وجهت طاقاتك في تغيير وتطوير ذاتك من خلال إيجاد وقتاً لتأمل ضغوطاتك اليومية وأفكارك المتراكمة التي قد تعيق أدائك لبعض المهمات، بسبب انشغالك بالعديد من الأعباء والتفاصيل التي منحتها جزءا كبيرا من طاقاتك الجسدية والفكرية، لكونك نادراً ما تتوقف لتتساءل عن مدى استحقاق هذه المهمة لأدائها قبل غيرها، وغالباً ما تؤدي مهام أقل أهمية بشكل تلقائي، وقد تعي بعد انتهائها عدم جدواها، وقد لا تعي ذلك ابداً.

ولن أتظاهر بأني أفضل حالا، فجميعنا نمر بهذه المراحل ولكن قليلين هم من يتعلمون الدرس، ويفهمون الرسالة، فلا يُكررون أخطاءهم بل بمقدورهم تفاديها والحيلولة دون وقوعها.

فالشخص الواعي هو من ابتعد قليلاً عن المشهد – وهم قله – ليستبصر الواقع ويبلغ الحقائق، فكُلما ابتعدت أكثر اتضحت رؤيتك للصورة الكبرى، فتلمست ابعادها واستوضحت مكنوناتها، فما بالك ان عُدت للبدايات البشرية لعمر الإنسان الحديث والذي سيبعدك لتتجاوز عشرات الآلاف من الأعوام التي عاش بها من عاش ثم أفنى كنهاية دنيوية حتمية.

نمت شعوب واندثرت، ازدهرت حضارات ثم ذبلت، أمم أشرقت ثم غربت، أرواحٌ أقبلت ثم أدبرت. الن يجعلك كُل هذا البُعد الزمني إدراك أنك لن تتوج بالكمال أداءك لجميع المهام، ولن تُحقق الفوز في جميع سباقاتك، ولن تتجسد جميع خيالاتك وتطلعاتك للواقع، كما لن تنال رضا جميع من هم بمحيطك، ولن تغير حالا أو تمنع رزقاً. مما يعني أنهُ بإمكانك التحرر والتوقف للتركيز على انتقاء المهام الأهم لأدائها، والاستثمار بالعلاقات الأقرب إليك، وتوجيه نقدك لذاتك بمراقبة مشاعرك وتصرفاتك اثناء ومن خلال اتخاذ قرارات مصيرية للحياة التي تبتغيها، واللحظات الثمينة التي يجب عليك اغتنامها لتحقيق رسالتك الدنيوية.

كما ان هذا البعد يتيح لك تتبع مسارات احداثك ومواقع توقفك ودوافع انطلاقك، لتلاحظ سقطاتك، فتتبين مسببات تكرارها، وتنتبه لمصادرها وادوار أفرادها المُعيقين وكلماتهم المثبطة، ومخلفاتها النفسية التي تراكمت وتلبدت كغيمة سوداء تمر بسماء روحك، فتحجب عنك رؤية شعاع الحقيقة المُشمسة، رامية حملها على الآخرين لتستريح من امطارها الصخرية المؤذية، التي لا تلبث ان تتضخم وتتزايد، ان لم تتدارك الأمر.

لتعلم جيداً، بأن الحياة لن تتوقف عن رميك بالحجارة، وستضيق الخناق عليك، ليتضاعف الألم إلى أن تتعلم الدرس، وتفهم التجربة، وتُغير ردة فعلك وانعكاساتك نحوها، لكي تعبر رحلتك بأفق متسع ورؤية واضحة، وتتخطى تجاربك بعقلانية، فالحياة مدرسة استاذها الزمن ودروسها التجارب.

Exit mobile version